كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [١٩/٢٨]، يعنون: فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد؟ وكقوله: تعالى ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ [٤/١٥٦].
وقوله: ﴿مَكَاناً قَصِيّاً﴾، القصي، البعيد، ومنه قول الراجز:
لتقعدن مقعد القصي... مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي... أني أبو ذيالك الصبي
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [٢٣/٥٠]، وقوله: في هذه الآية الكريمة: ﴿فَانْتَبَذَتْ بِهِ﴾، أي: انتبذت وهو في بطنها. والإشارة في قوله: هذا إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع.
وقوله: في هذه الآية الكريمة عنها: ﴿وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾، النسي والنِّسي ـ بالكسر وبالفتح ـ: هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته، كخرق الحيض، وكالوتد والعصا، ونحو ذلك. ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم: انظروا أنساءكم جمع نسي؟ أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد. ونحو ذلك. فقوله: ا ﴿وكنت نسياً﴾، أي: شيئاً تافهاً حقيراً من حقه أن يترك وينسى عادة. وقوله: ا ﴿منسياً﴾ تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت:
اتجعلنا جسرا لكلب قضاعة... ولست بنسي في معد ولا دخل
فقوله: «بنسي» أي شيء تافه منسي، وقول الشنفرى:
كان لها في الأرض نسياً تقصه... على أمها وإن تحدثك تبلت
فقوله: ﴿نسياً﴾، أي: شيء تركته ونسيته. وقوله: «تبلت» بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ـ أي تقطع كلامها من الحياء. والبلت في اللغة: القطع. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ﴾ بكسر الميم. وقرأ الباقون ﴿مت﴾ بضم الميم. وقرأ حفص عن عاصم وحمزة، ﴿وَكُنْتُ نَسْياً﴾ بفتح النون، والباقون بكسرها، وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان صحيحتان.


الصفحة التالية
Icon