قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي رجحانه في المسألة: أن الإشارة إن دلت على المعنى دلالة واضحة لا شك في المقصود معها أنها تقوم مقام النطق مطلقاً، ما لم تكن في خصوص اللفظ أهمية مقصودة من قبل الشارع، فإن كانت فيه فلا تقوم الإشارة مقامه كأيمان اللعان، فإن الله نص عليها بصورة معينة. فالظاهر أن الإشارة لا تقوم مقامها وكجميع الألفاظ المتعمَّد بها فلا تكفي فيها الإشارة، والله جل وعلا أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً﴾، أي: إمساكاً عن الكلام في قول الجمهور. والصوم في اللغة: الإمساك، ومنه قول نابغة ذبيان:

خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فقوله: «خيل صيام» أي ممسكة عن الجري. وقيل عن العلف، «وخيل غير صائمة» أي غير ممسكة عما ذكر وقول امرىء القيس:
كأن الثريا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
فقوله: «في مصامها» أي مكان صومها، يعني إمساكها عن الحركة. وهذا القول هو الصحيح في معنى الآية. أن المراد بالصوم الإمساك عن الكلام، بدليل قوله: بعده ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً﴾، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال ابن حجر في الفتح في باب اللعان: وقد ثبت من حديث أبي كعب وأنس بن مالك: أن معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً﴾، أي صمتاً. أخرجه الطبراني وغيره ا هـ. وقال بعض العلماء: المراد بالصوم في الآية: هو الصوم الشرعي المعروف المذكور في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [٢/١٨٣]، وعليه فالمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم حرم عليهم الكلام كما يحرم عليهم الطعام، والصواب في معنى الآية الأول. وعليه فهذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسياً كان جائزاً في شريعتهم. أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا ﷺ فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به. قال البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. "مرة فليتكلم، وليستظل وليقعد وليتم صومه" قال عبد الوهاب: حدثنا أيوب عن عكرمة عن


الصفحة التالية
Icon