مَنْ أَغْرَقْنَا} وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عز وجل: ﴿ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ َقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ إلى غير ذلك.
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت إن النبي ﷺ تقوله أنزل الله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار فقال جل ذكره: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ﴾ فأفحموا عن الجواب وتقطعت بهم الأسباب وعدلوا إلى الحروب والعناد وآثروا سبي الحريم والأولاد ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن.
فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان وأرفع درجات الإيجاز والبيان بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة هذا رسول الله ﷺ مع ما أوتي من جوامع الكلم واختص به من غرائب الحكم إذا تأملت قوله ﷺ في صفة الجنان وإن كان في نهاية الإحسان وجدته منحطا عن رتبة القرآن وذلك في قوله عليه السلام: " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ". فأين ذلك من قوله عز وجل: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ وقوله: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾. هذا أعدل وزنا وأحسن تركيبا وأعذب لفظا وأقل حروفا على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو أطول آية لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف وضاق المقال عن القاصر المتكلف وبهذا قامت الحجة على العرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء ومعجزة موسى