إذا عرفت هذا فنقول : إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة، وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك، فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدوداً بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه، لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف، وكونه محصوراً بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين، وهو محال. ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتاً معيناً كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعداً متناهياً لا محالة. وأما إن قلنا بالقسم الثاني : وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة، فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة. لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال، ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث، فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل.
الحجة الخامسة عشرة : إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان : إما السطح الباطن من الجسم الحاوي. وإما البعد المجرد والفضاء الممتد، وليس يعقل في المكان قسم ثالث.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المكان هو الأول. فنقول : ثبت أن أجسام العالم متناهية، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم، وإن كان المكان هو الثاني، فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز، وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثاً بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول، وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين، فيلزم كون الإله محدثاً، وهو محال. فثبت أن القول بأنه تعاى حاصل في الحيز والجهة / قول باطل على كل الاعتبارات.
فإن قالوا : الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل/ فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو ؟
فنقول : هذا باطل، لأن كون بعض تلك الجهات علو، وبعضها سفلاً، أحوال لا تحصل، إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم، فلما كان هذا العالم محدثاً كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار، بل ليس إلا الخلاء المحض، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه، وأيضاً لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب ؟
فلم لا يعقل أيضاً أن يقال : إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب ؟
وعلى ها التقدير، فذلك اسم لا يكون قابلاً للحركة والسكون، فلا يجري فيه / دليل حدوث الأجسام، والقائل بهذا القول، لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون، والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر. والله أعلم.
البرهان السادس : لو كان الباري تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك، فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة.
فإن قلنا : إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس، مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة، كان ذلك نقطة لا تنقسم، وجوهراً فرداً لا ينقسم، فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة، وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء، وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك، والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ، فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل، وأيضاً فلو جاز ذلك، فلم لا يعقل أن يقال : إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة، أو ذرة ملتصقة بذنب قملة، أو نملة ؟
ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء، فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
وأما القسم الثاني : وهو أنه يقبل القسمة، فنقول : كل ما كان كذلك، فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر، وذلك على الإله الواجب لذاته محال.
البرهان السابع : أن نقول : كل ذات قائمة بنفسها مشاراً إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن. فما لا يكون ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع كونه مشاراً إليه بحسب الحس.
أما المقدمة الأولى : فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب يساره وكل ماهو كذلك فهو منقسم.
وأما المقدمة الثانية : وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره، وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته.
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد.


الصفحة التالية
Icon