الحجة الثالثة عشرة : العالم كرة، وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق.
أما المقام الأول : فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفاً قمرياً حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلاً في البلاد الشرقية في أول النهار، فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية، وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب، وأيضاً إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر، كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب، ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
وإذا ثبت هذا فنقول : إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين، والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني، فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما، فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني، وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتاً / بالنسبة إلى أقوام معينين، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق، فوجب أن لا يكون حاصلاً في حيز معين، وأيضاً فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين، وكان يميناً بالنسبة إلى ثالث، وشمالاً بالنسبة إلى رابع، وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس، وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس، فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكاً محيطاً بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم، وذلك لا يقوله مسلم، والله أعلم.
الحجة الرابعة عشرة : لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماساً للعرش، أو مبايناً له ببعد متناه أو ببعد غير متناه، والأقسام الثلاثة باطلة، فالقول بكونه فرق العرش باطل.
أما بيان فساد القسم الأول : فهو أن بتقدير أن يصير مماساً للعرش كان الطرف الأسفل منه مماساً للعرش، فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق ؟
فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماساً لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش، فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض، وذلك هو القول بكونه جسماً مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك محال، وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحاً رقيقاً لا ثخن له أصلاً، ثم يعود التقسيم فيه، وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركباً من الأجزاء والأبعاض، وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءاً لا يتجزأ مخلوطاً بالهباآت، وذلك لا يقوله عاقل.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه، فهذا أيضاً محال، لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماساً له، وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
وأما القسم الثالث : وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية، فهذا أظهر فساداً من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مبايناً للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم، ومحصوراً بين هذين الحاصرين، والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعداً غير متناه.
فإن قيل : أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد، فتقدمه على العالم محصور بين / حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما : الأزل، والثاني : أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصوراً بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية، فكذا ههنا، وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم.
والجواب : أن هذا هو محض المغالطة، لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم، فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدوداً بين حدين ومحصوراً بين حاصرين، وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه. بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة.