المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص ﴿يَغْشَى﴾ بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد، وفي الرعد هكذا. قال الواحدي رحمه الله : الإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء، وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف، فمن التشديد قوله تعالى :﴿فَغَشَّـاـاهَا مَا غَشَّى ﴾ (النجم : ٥٤) ومن اللغة الثانية قوله :﴿فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يس : ٩) والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية.
المسألة الثانية : قوله :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ﴾ يحتمل أن يكون المراد يلحق الليل بالنهار، وأن يكون المراد النهار بالليل، واللفظ يحتملهما معاً وليس فيه تغيير، والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس ﴿وَهُوَ الَّذِى مَدَّ﴾ بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار أي يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه الله : أنه سبحانه لما أخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته، أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر، وتزول الشبه عن كل الجهات، فقال :﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ لأنه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة، والفوائد الجليلة، فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة، وتكمل المنفعة والمصلحة.
المسألة الثالثة : قوله :﴿يَطْلُبُه حَثِيثًا﴾ قال الليث : الحث : الإعجال، يقال : حثثت فلاناً فأحتث، فهو حثيث ومحثوث، أي مجد سريع.
واعلم أنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة، وذلك هو الحق، لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى أن الباحثين عن أحوال الموجودات. قالوا : الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى :﴿يَطْلُبُه حَثِيثًا﴾ ونظير هذه الآية قوله سبحانه :﴿لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِا وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (يس : ٤٠) فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء، والمقصود : التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
ثم قال تعالى :﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتا بِأَمْرِه ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات ﴾ بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر، قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى :﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ﴾ (فصلت : ٣٧) فكما صرح في هذه الآية أنه سخر الشمس والقمر كذلك يجب أن يحمل على أنه خلقها في قوله :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُه حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ﴾ وهذا النصف على الحال أي خلق هذه الأشياء حال كونها موصوفة بهذه الصفات والآثار والأفعال وحجة ابن عامر قوله تعالى :﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ﴾ (الجاثية : ١٣) ومن جملة ما في السماء الشمس والقمر فلما أخبر أنه تعالى سخرها حسن الأخبار عنها بأنها مسخرة كما أنك إذا قلت ضربت زيداً استقام أن تقول زيد مضروب.
المسألة الثانية : في هذه الآية لطائف : فالأولى : أن الشمس لها نوعان من الحركة :
أحد النوعين : حركتها بحسب ذاتها وهي إنما تتم في سنة كاملة وبسبب هذه الحركة تحصل السنة.
والنوع الثاني : حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم وهذه الحركة تتم في اليوم بليلة.
إذا عرفت هذا فنقول : الليل والنهار لا يحصل بسبب حركة الشمس وإنما يحصل بسبب حركة السماء الأقصى التي يقال لها العرش فهذا السبب لما ذكر العرش بقوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ ربط به قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى مَدَّ﴾ تنبيهاً على أن سبب حصول الليل والنهار هو حركة الفلك الأقصى لا حركة الشمس والقمر وهذه دقيقة عجيبة. والثانية : أنه تعالى لما شرح كيفية تخليق السموات. قال :﴿فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ﴾ (فصلت : ١٢) فدلت تلك الآية على أنه سبحانه خص كل ذلك بلطيفة نورانية ربانية من عالم الأمر.