﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتا بِأَمْرِه ﴾ وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد فيقال لهذا المسكين : إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه : الأول : أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها. والثاني : أنه تعالى قال :﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا وَزَيَّنَّـاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ (ق : ٦) فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها. والثالث : أنه تعالى قال :﴿لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (غافر : ٥٧) فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السموات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس، ثم أنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله :﴿وَفِى أَنفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات : ٢١) فما كان أعلى شأناً وأعظم برهاناً منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب. والرابع : أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال :﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا﴾ (آل عمران : ١٩١) ولو كان ذلك ممنوعاً منه لما فعل. والخامس : أن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان : منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى. وأيضاً فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
إذا ثبت هذا فنقول : من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث، / فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العالم العلوي والعالم السفلي على سبيل التفصيل فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة، فيصير ذلك جارياً مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله، فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر، ومن دليل إلى دليل آخر/ فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات. فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة، ونسأل الله العون والعصمة.
المسألة الرابعة : الأمر المذكور في قوله :﴿مُسَخَّرَاتا بِأَمْرِه ﴾ قد فسرناه بما سبق ذكره، وأما المفسرون فلهم فيه وجوه : أحدها : المراد نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمته وقدرته، وليس المراد من هذا الأمر الكلام، ونظيره في قوله تعالى :﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ﴾ (فصلت : ١١) وقوله :﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل : ٤٠) ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الثاني الذي هو الكلام، وقال : إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة.
المسألة الخامسة : أن الشمس والقمر من النجوم فذكرهما ثم عطف على ذكرهما ذكر النجوم والسبب في إفرادهما بالذكر أنه تعالى جعلهما سبباً لعمارة هذا العالم، والاستقصاء في تقريره لا يليق بهذا الموضع، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، والشمس تأثيرها في التسخين والقمر تأثيره في الترطيب، وتولد المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة. ثم إنه تعالى خص كل كوكب بخاصة عجيبة وتدبير غريب لا يعرفه بتمامه إلا الله تعالى، وجعله معيناً لهما في تلك التأثيرات والمباحث المستقصاة في علم الهيئة تدل على أن الشمس كالسلطان، والقمر كالنائب، وسائر الكواكب كالخدم، فلهذا السبب بدأ الله سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثم أتبعه بذكر سائر النجوم.