المسألة الثامنة : قوله :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ يدل على أن لله أمراً ونهياً على عباده، وأن له تكليفاً على عباده، والخلاف مع نفاة التكليف. واحتجوا عليه بوجوه : أولها : أن المكلف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع. فكان الأمر به أمراً بتحصيل الحاصل وأنه محال، وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع، فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال، وثانيها : أنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله، كان واجب الوقوع، فلا فائدة في الأمر، وإن لم يخلق الداعي إليه كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الأمر به. وثالثها : أن أمر الكافر والفاسق لا يفيد إلا الضرر المحض، لأنه لما علم الله أنه لا يؤمن ولا يطيع، امتنع أن يصدر عنه الإيمان والطاعة، إلا إذا / صار علم الله جهلاً، والعبد لا قدرة له على تجهيل الله، وإذا تعذر اللازم تعذر الملزوم. فوجب أن يقال : لا قدرة للكافر والفاسق على الإيمان والطاعة أصلاً، وإذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلا مجرد استحقاق العقاب/ فيكون هذا الأمر والتكليف إضراراً محضاً من غير فائدة ألبتة، وهو لا يليق بالرحيم الحكيم، ورابعها : أن الأمر والتكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث، وإن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج وليس باله، وإن كان لفائدة عائدة إلى العابد. فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النفع، ودفع الضرر، والله تعالى قادر على تحصيلها بالتمام والكمال من غير واسطة التكليف، فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً من غير فائدة، وأنه لا يجوز.
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنه يحسن منه أن يأمر عباده، وأن يكلفهم بما شاء. واحتج عليه بقوله :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ يعني لما كان الخلق منه ثبت أنه هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم، وإذا كان مالكاً لهم حسن منه أن يأمرهم وينهاهم، لأن ذلك تصرف من المالك في ملك نفسه، وذلك مستحسن، فقوله سبحانه :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ يجري مجرى الدليل القاطع على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء.
المسألة التاسعة : دلت الآية على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لهم لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً، ولا كما يقولونه أيضاً من حيث العوض والثواب، لأنه تعالى ذكر أن الخلق له أولاً، ثم ذكر الأمر بعده، وذلك يدل على أن حسن الأمر معلل بكونه خالقاً لهم موجداً لهم، وإذا كانت العلة في حسن الأمر والتكليف، هذا القدر سقط اعتبار الحسن، والقبح، والثواب، والعقاب في اعتبار حسن الأمر والتكليف.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٧٨
المسألة العاشرة : دلت هذه الآية على أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر، وكان من حق هذه المسألة تقدمها على سائر المسائل، إلا أنها إنما خطرت بالبال في هذا الوقت، والدليل عليه قوله تعالى :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ فدل ذلك على أن له الأمر، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له النهي، والخبر، والاستخبار، ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
المسألة الحادية عشرة : أنه تعالى بين كونه تعالى خالقاً للسموات، والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم.
ثم قال :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ أي لا خالق إلا هو.
ولقائل أن يقول : لا يلزم من كونه تعالى خالقاً لهذه الأشياء أن يقال : لا خالق على الإطلاق إلا هو، فلم رتب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء إثبات أنه لا خالق إلا هو على الإطلاق ؟
فنقول : الحق أنه متى ثبت كونه تعالى خالقاً لبعض الأشياء، وجب كونه خالقاً لكل الممكنات، وتقريره : أن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه، والإمكان واحد في كل الممكنات، وهذا الإمكان إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر متعين، أو إلى مؤثر غير متعين. والثاني باطل، لأن كل ما كان موجوداً في الخارج، فهو متعين في نفسه، فيلزم منه أن ما لا يكون متعيناً في نفسه لم يكن موجوداً في الخارج. وما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علة لوجود غيره في الخارج، فثبت أن الإمكان علة للحاجة إلى موجد ومعين، فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجاً إلى ذلك المعين. فثبت أن الذي يكون مأثراً في وجود شيء واحد، هو المؤثر في وجود كل الممكنات.
أما قوله تعالى :﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ فاعلم أنه سبحانه لما بين كونه خالقاً للسموات، والأرض، والعرش، والليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم وبين كون الكل مسخراً في قدرته وقهره ومشيئته، وبين أن له الحكم والأمر والنهي والتكليف، بين أنه يستحق الثناء والتقديس والتنزيه، فقال :﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ وقد تقدم تفسير ﴿تَبَـارَكَ﴾ فلا نعيده.