الحجة الرابعة : قوله عليه السلام :"دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية" وعنه عليه السلام :"خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي" وعن الحسن أنه كان يقول : إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره، يفقه الكثير وما يشعر به الناس، ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواماً كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همساً، لأن الله تعالى قال :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ وذكر الله عبده زكريا فقال :﴿إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا﴾.
الحجة الخامسة : المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة ألبتة. فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصوناً عن الرياء وههنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها، وهي : أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها ؟
فقال بعضهم الأولى إخفاؤها صوناً لها عن الرياء وقال أخرون : الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات. وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفاً على نفسه من الرياء الأولى الإخفاء صوناً لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٨٦
المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة رحمه الله، إخفاء التأمين أفضل. وقال الشافعي رحمه الله، إعلانه أفضل، واحتج أبو حنيفة على صحة قوله، قال : في قوله :"آمين" وجهان : أحدهما : أنه دعاء. والثاني : أنه من أسماء الله، فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى :﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ (الأعراف : ٢٠٥) فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ونحن بهذا القول نقول :
أما قوله تعالى :﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمع المسلمون على أن المحبة صفة من صفات الله تعالى، لأن القرآن نطق بإثباتها في آيات كثيرة. واتفقوا على أنه ليس معناها شهوة النفس وميل الطبع وطلب التلذذ بالشيء، لأن كل ذلك في حق الله تعالى محال بالاتفاق، واختلفوا في تفسير المحبة في حق الله تعالى على ثلاثة أقوال :
فالقول الأول : أنها عبارة عن أيصال الله الثواب والخير والرحمة إلى العبد.
والقول الثاني : أنها عبارة عن كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب والخير إلى العبد. وهذا الاختلاف بناء على مسألة أخرى وهي : أنه تعالى هل هو موصوف بصفة الإرادة أم لا ؟
قال الكعبي وأبو الحسين : إنه تعالى غير موصوف بالإرادة ألبتة، فكونه تعالى مريداً لأفعال نفسه أنه موجد لها وفاعل لها، وكونه تعالى مريداً لأفعال غيره كونه آمراً بها ولا يجوز كونه تعالى موصوفاً بصفة الإرادة. وأما أصحابنا ومعتزلة البصرة فقد أثبتوا كونه تعالى موصوفاً بصفة المريدية.
إذا عرفت هذا فمن نفي الإرادة في حق الله تعالى فسر محبة الله بمجرد إيصال الثواب إلى العبد ومن أثبت الإرادة لله تعالى فسر محبة الله بإرادته لإيصال الثواب إليه.
والقول الثالث : أنه لا يبعد أن تكون محبة الله تعالى للعبد صفة وراء كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب إليه، وذلك لأنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخير إلى ذلك الابن فكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها وفائدة من فوائدها. أقصى ما في الباب أن يقال : إن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس وذلك في حق الله تعالى محال، إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يقال محبة الله تعالى صفة أخرى، سوى الشهوة وميل الطبع يترتب عليها إرادة إيصال الخير والثواب إلى العبد ؟
أقصى ما في الباب، أنا لا نعرف أن تلك المحبة ما هي وكيف هي ؟
إلا أن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. ألا ترى أن أهل السنة يثبتون كونه تعالى مرئياً، ثم يقولون إن تلك الرؤية مخالفة لرؤية الأجسام والألوان، بل هي رؤية بلا كيف، فلم لا يقولون ههنا أيضاً أن محبة الله للعبد محبة منزهة عن ميل الطبع وشهوة النفس بل هي محبة بلا كيف ؟
فثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع. بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها، لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٨٦
المسألة الثانية : قوله :﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي المجاوزين ما أمروا به. قال الكلبي وابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء.