والقول الثاني : أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات، كان ذلك أولى.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٣
المسألة الثانية : هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس، وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان : منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية، والأخلاق الفاضلة، كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة، وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة، فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليطة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية، ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى :﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى ا أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ (المائدة : ٨٣) ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال :﴿فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ (البقرة : ٧٤) ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب، ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب، وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول : من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون / الجاه، ومنهم من يكون بالعكس، والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود، ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار، وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافاً جوهرياً ذاتياً لا يمكن إزالته ولا تبديله، وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفساً مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جارياً مجرى تكليف ما لا يطاق. فثبت بهذا البيان : أن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها، والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً قليل الفائدة والخير، كثير الفضول والشر.
والوجه الثاني : من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى :﴿بِإِذْنِ رَبِّه ﴾ وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٣
المسألة الثالثة : قرىء ﴿يَخْرُجُ نَبَاتُه ﴾ أي يخرجه البلد وينبته.
أما قوله تعالى :﴿وَالَّذِى خَبُثَ﴾ قال الفراء : يقال : خبث الشيء يخبث خبثاً وخباثة. وقوله :﴿إِلا نَكِدًا ﴾ النكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل. وقال الليث : النكد : الشؤم واللؤم وقلة العطاء، ورجل أنكد ونكد قال :
وأعط ما أعطيته طيبا
لا خير في المنكود والناكد
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿وَالَّذِى خَبُثَ﴾ صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً، فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجح إلى ذلك البلد مقامه، إلا أنه كان مجروراً بارزاً فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدر ونبات الذي خبث، وقرىء ﴿نَكِدًا ﴾ بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد.
ثم قال تعالى :﴿كَذَالِكَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ قرىء ﴿يُصْرَفْ﴾ أي يصرفها الله، وإنما ختم هذه الآية بقوله :﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سبباً لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيدة، فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته، ومن الوجه الثاني تنبيه على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد، فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها، / فلا جرم قال :﴿نُصَرِّفُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها، فهو كقوله :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٣
٢٩٧