واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ هل هو اليقين، أو الخوف بمعنى الظن والشك. قال قوم : المراد منه الجزم واليقين، لأنه كان جازماً بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في / الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون : بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه : الأول : إنه إنما قال :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم، ومع هذا التجويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب، فوجب أن يذكره بلفظ الخوف. والثاني : أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة فلا جرم بقي متوقفاً مجوزاً أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا ؟
والثالث : يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة :﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم﴾ (النحل : ٥٠) أي يحذرون المعاصي خوفاً من العقاب. الرابع : إنه بتقدير أن يكون قاطعاً بنزول أصل العذاب لكنه ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب، وهو أنه عظيم جداً أو متوسط، فكان هذا الشك راجعاً إلى وصف العقاب، وهو كونه عظيماً أم لا، لا في أصل حصوله.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٧
ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه، فقال :﴿قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِه إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ وقال المفسرون :﴿الْمَلا﴾ الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء، والدليل عليه أن قوله ﴿مِن قَوْمِهِ﴾ يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه/ وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف، وذلك بأن يكونوا هم الذين يملؤن صدور المجالس، وتمتلىء القلوب من هيبتهم، وتمتلىء الأبصار من رؤيتهم، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر. وقوله :﴿إِنَّا لَنَرَاـاكَ﴾ هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية. وقوله :﴿فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ أي في خطأ ظاهر وضلال بين، ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحاً عليه السلام ذكرها، وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد، ولما ذكروا هذا الكلام. أجاب نوح عليه السلام بقوله :﴿قَالَ يَـاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَـالَةٌ﴾.
فإن قالوا : إن القوم قالوا :﴿إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾.
فجوابه أن يقال : ليس بي ضلال، فلم ترك هذا الكلام، وقال : ليس بي ضلالة ؟
قلت : لأن قوله :﴿لَيْسَ بِى ضَلَـالَةٌ﴾ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة، فكان هذا أبلغ في عموم السلب، ثم إنه عليه السلام لما نفي عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها، وهو كونه رسولاً إلى الخلق من رب العالمين. ذكر ما هو المقصود من الرسالة، وهو أمران : الأول : تبليغ الرسالة. والثاني : تقرير النصيحة. فقال :﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ بالتخفيف، من أبلغ، والباقون بالتشديد. قال الواحدي : وكلا الوجهين جاء في التنزيل، فالتخفيف قوله :﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم﴾ (هود : ٥٧) والتشديد ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه ﴾ (المائدة : ٦٧).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٧
المسألة الثانية : الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه : أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه، وأما النصيحة : فهو أنه يرغبه في الطاعة، ويحذره عن المعصية، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه، وقوله :﴿رِسَـالَـاتِ رَبِّى﴾ يدل على أنه تعالى حمله أنواعاً كثيرة من الرسالة. وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا، وقوله :﴿وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾ قال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نصحتك، إنما تقول : نصحت لك، ويجوز أيضاً نصحتك. قال النابغة :
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى : أني أبلغ إليكم تكاليف الله، ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح، وأدعوكم إلى ما دعاني، وأحب إليكم ما أحبه لنفسي.
ثم قال :﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ وفيه وجوه : الأول : واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان. الثاني : واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقاباً شديداً خارجاً عما تتصوره عقولكم. الثالث : يجوز أن يكون المراد : واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون. ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام : حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٧
٢٩٩