وجواب أصحابنا أن نقول : إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح، وإن توقف لزم الجبر، ومتى لزم ذلك وجب القطع، فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر، وذلك يبطل مذهبكم. ثم بين تعالى أنهم مع لك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب، ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين. وبين العلة في ذلك فقال :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، قال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ يَوْمَـاـاِذٍ﴾ (القصص : ٦٦) وقال :﴿قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُم فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ﴾ (الأنعام : ١٠٤) قال زهير :
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٩
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿عَامَيْنِ﴾ والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمي ثابت. والعامي على عمي حادث، ولا شك أن عماهم كان ثابتاً راسخاً، والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى :﴿وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ﴾ (هود : ٣٦).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩٩
٣٠٢
اعلم أن هذا هو القصة الثانية، وهي قصة هود مع قومه.
أما قوله :﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ ففيه أبحاث :
البحث الأول : انتصب قوله :﴿أَخَاهُمْ﴾ بقوله :﴿أَرْسَلْنَا﴾ في أول الكلام والتقدير ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه ﴾ ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾.
البحث الثاني : اتفقوا على أن هوداً ما كان أخاً لهم في الدين. واختلفوا في أنه. هل كان أخا قرابة قريبة أم لا ؟
قال الكلبي : إنه كان واحداً من تلك القبيلة، وقال آخرون : إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة فكفي هذا القدر في تسمية هذه الأخوة، والمعنى أنا بعثنا إلى عاد واحداً من جنسهم وهو البشر ليكون ألفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل. وما بعثنا إليهم شخصاً من غير جنسهم مثل ملك أو جني.
البحث الثالث : أخاهم : أي صاحبهم ورسولهم، والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم، ومنه قوله تعالى :﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ (الأعراف : ٣٨) أي صاحبتها وشبيهتها. وقال عليه السلام :"إن أخا صداء قد أذن وإنما يقيم من أذن" يريد صاحبهم.
البحث الرابع : قالوا نسب هود هذا : هود بن شالخ، بن أرفخشد، بن سام. بن نوح. وأما عاد فهم قوم كانوا باليمن بالأحقاف، قال ابن إسحق : والأحقاف، الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٢
البحث الخامس : اعلم أن ألفاظ هذه القصة موافقة للألفاظ المذكورة في قصة نوح عليه السلام إلا في أشياء : الأول : في قصة نوح عليه السلام :﴿فَقَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ (الأعراف : ٥٩) وفي قصة هود :﴿قَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ والفرق أن نوحاً عليه السلام كان مواظباً على دعواهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة. وأما هود فما كانت مبالغته إلى هذا الحد فلا جرم جاء "فاء التعقيب" في كلام نوح دون كلام هود. والثاني : أن في قصة نوح ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الأعراف : ٥٩) وقال في هذه القصة :﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ والفرق بين الصورتين أن قبل نوح عليه السلام لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة وهي الطوفان العظيم، فلا جرم أخبر نوح عن تلك الواقعة فقال :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وأما واقعة هود عليه السلام فقد كانت مسبوقة بواقعة نوح وكان عند الناس علم بتلك الواقعة قريباً، فلا جرم اكتفى هود بقوله :﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فكان قوله :﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.
والفرق الثالث : قال تعالى في قصة نوح :﴿قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِه ﴾ وقال في قصة هود :﴿قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِه ﴾ والفرق أنه كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعد، أسلم وكان يكتم إيمانه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن.


الصفحة التالية
Icon