والفرق السادس : بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال :﴿عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف : ٦٣) وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله :﴿وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة، وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام :﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ (الأعراف : ٦٩).
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع، والمقصود منه أن تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة، وقد ذكر هود عليه السلام ههنا نوعين من الأنعام : الأول : أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح. والثاني : قوله :﴿وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَاصْطَةً﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول :﴿الْخَلْقِ ﴾ في اللغة عبارة عن التقدير، فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية، فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم، ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة، وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة، فبعضها أعظم وبعضها أضعف.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٢
إذا عرفت هذا فنقول : لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة، فليس في اللفظ ألبتة ما يدل عليه إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة. قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً، وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما، ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر، وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله :/ ﴿وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَاصْطَةً﴾ كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة، وكون بعضهم محباً للباقين ناصراً لهم وزوال العداوة والخصومة من بينهم، فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها، فصح أن يقال :﴿وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَاصْطَةً﴾ ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال :﴿فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : لا بد في الآية من إضمار، والتقدير : واذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بتلك الإنعامان لعلكم تفلحون. وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر بل لا بد له من العمل، واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية وقالوا : إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر، فوجب أن يكون مجرد التذكر كافياً في حصول الصلاح. وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل. والله أعلم.
البحث الثاني : قال ابن عباس :﴿اللَّهَ لَعَلَّكُمْ﴾ أي نعم الله عليكم. قال الواحدي : واحد الآلاء إلى وألو وإلى. قال الأعشى :
ف أبيض لا يرهب الهزال ولا
يقطع رحماً ولا يخون إلي
قال نظير الآلاء الآناء، واحدها : أنا وإني وإني، وزاد صاحب "الكشاف" في الأمثلة فقال : ضلع وأضلاع، وعنب وأعناب.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٢
٣٠٤


الصفحة التالية
Icon