والجواب : قال أبو مسلم : الطاغية. اسم لكل ما تجاوز حده سواء كان حيواناً أو غير حيوان وألحق الهاء به للمبالغة، فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى :﴿إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى ﴾ (العلق : ٦، ٧) ويقال : طغى طغياناً وهو طاغ وطاغية. وقال تعالى :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاـاهَآ﴾ (الشمس : ١١) وقال في غير الحيوان :﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ﴾ (الحاقة : ١١) أي غلب وتجاوز عن الحد، وأما الرجفة، فهي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها، وأما الصيحة، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة، فالغالب أنها الزلزلة وكذلك الزجرة قال تعالى :﴿فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾ (النازعات : ١٣، ١٤) فبطل ما قاله الطاعن.
السؤال الثالث : أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة عن الصخرة وذلك معجزة قاهرة تقرب حال المكلفين عند مشاهدة هذه المعجزة من الإلجاء، وأيضاً شاهدوا أن الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شرباً لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني، وذلك أيضاً معجزة قاهرة، ثم إن القوم لما نحروها، وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن / نحروها، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب، وهو ما يروى أنهم احمروا في اليوم الأول، ثم اصفروا في اليوم الثاني، ثم اسودوا في اليوم الثالث، فمع مشاهدة تلك المعجزات القاهرة في أول الأمر، ثم شاهدوا نزول العذاب الشديد في آخر الأمر، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصراً على كفره غير تائب منه ؟
والجواب الأول أن يقال : إنهم قبل أن شاهدوا تلك العلامات كانوا يكذبون صالحاً في نزول العذاب، فلما شاهدوا العلامات خرجوا عند ذلك عن حد التكليف، وخرجوا عن أن تكون توبتهم مقبولة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٩
ثم قال تعالى :﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ وفيه قولان : الأول : أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا، والدليل عليه أنه تعالى قال :﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ﴾ والفاء تدل على التعقيب، فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم. والثاني : أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم، بدليل : أنه خاطب القوم. وقال :﴿يَـاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـاكِن لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ﴾ وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه قال لهم :﴿يَـاقَوْمِ﴾ والأموات لا يوصفون بالقوم، لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام، وذلك في حق الميت مفقود. والثاني : أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز. والثالث : أنه قال :﴿وَلَـاكِن لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ﴾ فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم، ويمكن أن يجاب عنه فنقول : قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه، فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك، يا أخي منذ كم نصحتك، فلم تقبل وكم منعتك فلم تمتنع، فكذا ههنا، والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة. وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة. فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه. وقيل : يخف عليه أثر تلك المصيبة، وذكروا جواباً آخر، وهو : أن صالحاً عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين، كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر. فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف. فقال :"ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب".
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٠٩
٣٠٩
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة. قال النحويون : إنما صرف لوط ونوح لخفته، فإنه مركب من ثلاثة أحرف، وهو ساكن الوسط ﴿أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ﴾ أتفعلون السيئة المتمادية في القبح ؟
وفي قوله :﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" :﴿مِنْ﴾ الأولى زائدة لتوكيد النفي، وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال :﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ﴾ مع أن الشهوة داعية إلى ذلك العمل أبداً ؟
والجواب : أنا نرى كثيراً من الناس يستقذر ذلك العمل، فإذا جاز في الكثير منهم استقذاره لم يبعد أيضاً انقضاء كثير من الإعصار بحيث لا يقدم أحد من أهل تلك الإعصاء عليه، وفيه وجه آخر، وهو أن يقال : لعلهم بكليتهم أقبلوا على ذلك العمل، والإقبال بالكلية على ذلك العمل مما لم يوجد في الإعصار السابقة. قال الحسن : كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم، وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال عطاء عن ابن عباس : استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض.