والجواب : أراد بالكيل آلة الكيل، وهو المكيال، أو يسمى ما يكال به بالكيل، كما يقال العيش لما يعاش به. والرابع : قوله :﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾ والمراد أنه لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه/ ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وقطع الطريق. وانتزاع الأموال بطريق الحيل. والخامس : قوله :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ وذلك لأنه لما كان أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة، وهما يوجبان الفساد، لا جرم قال بعده :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ وقد سبق تفسير هذه الكلمة، وذكروا فيه وجوهاً فقيل :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن، لأن ذلك يتبعه الفساد. وقيل : أراد به المنع من كل ما كان فساداً حملاً للفظ على عمومه. وقيل : قوله :﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾ منع من مفاسد الدنيا وقوله :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين، واختلفوا في معنى ﴿بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا ﴾ قيل : بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه، فنهاهم عن الفساد، وقد صارت صالحة. وقيل : المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والشفقة على خلق الله، ويدخل فيه ترك البخس، وترك الإفساد، وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء، كأنه تعالى يقول : إيصال النفع إلى الكل متعذر. وأما كف الشر عن الكل فممكن، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة. قال :﴿ذالِكُمْ﴾ وهو إشارة إلى هذه الخمسة، والمعنى : خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة، والمراد : أترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة، رغبوا في المعاملات معكم، فكثرت أموالكم ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي إن كنتم مصدقين لي في قولي.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٤
٣١٥
اعلم أن شعيباً عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء. الأول : أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق، لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله :﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ قولان : الأول : يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس. روي أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام. والثاني : أن يحمل الصراط على مناهج الدين، قال صاحب "الكشاف" :﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف : ١٦) قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين، والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله :﴿وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وقوله :﴿بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها، فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا، فالباء للإلصاق، وهو قد التصق بذلك المكان.
وأما قوله :﴿تُوعَدُونَ﴾ فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال، والتقدير : ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجاً في سبيل الله، والحاصل : أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة. واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض. وجب حصول المغايرة بينها فقوله :﴿تُوعَدُونَ﴾ يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد، فقد يكون بالإيعاد بالمضار، وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه، وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه.
أما قوله :﴿وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيباً منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة. وإذا تأملت علمت أن أحداً لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٥
ثم قال :﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ﴾ والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية، قال الزجاج : وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه، كثر عددكم بعد القلة، وكثركم بالغني بعد الفقر، وكثركم بالقدرة بعد الضعف، ووجه / ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل، في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة. فأما تكثير عددهم بعد القلة ؛ فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط، فولدت حتى كثر عددهم.