ثم قال بعده :﴿وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال، ليصير ذلك زاجراً لكم عن العصيان والفساد، فقوله :﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ﴾ المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا، وقوله :﴿وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال، احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا، فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولاً والترهيب ثانياً.
ثم قال :﴿وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِه وَطَآاـاِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا ﴾ والمقصود منه تسلية قلوب المؤمنين وزجر من لم يؤمن/ لأن قوله :﴿فَاصْبِرُوا ﴾ تهديد، وكذلك قوله :﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ﴾ والمراد إعلاء درجات المؤمنين، وإظهار هوان الكافرين، وهذه الحالة قد تظهر في الدنيا فإن لم تظهر في الدنيا فلا بد من ظهورها في الآخرة.
ثم قال :﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ﴾ يعني أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف، فلا بد وأن يخص المؤمن التقي بالدرجات العالية، والكافر الشقي بأنواع العقوبات، ونظيره قوله :﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ﴾ (ص : ٢٨).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٥
٣١٩
اعلم أن شعيباً لما قرر تلك الكلمات قال :﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ﴾ وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين : إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية. وإما أن تعود إلى ملتنا، والإشكال فيه أن يقال : إن قولهم :﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ﴾ يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر، فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافراً قبل ذلك، وذلك في غاية الفساد، وقوله :﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم﴾ يدل أيضاً على هذا المعنى.
والجواب من وجوه : الأول : أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفاراً فخاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم. الثاني : أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم، وأن شعيباً ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام. الثالث : أن شعيباً في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه، فتوهموا أنه كان على دين قومه. الرابع : لا يبعد أن يقال : إن شعيباً كان على شريعتهم، ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه. الخامس : المراد من قوله :﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ﴾ أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء. تقول العرب : قد عاد إلي من فلان مكروه، يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء. قال الشاعر :
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٩
فإن تكن الأيام أحسن مدة
إلى فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان، ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك. أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين : الأول : قوله :﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَـارِهِينَ﴾ الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال. تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين : الثاني : قوله :﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم، وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال : إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله. وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة، والبراءة عن الكذب، فالعود في ملتكم يبطل النبوة، ويزيل الرسالة. وقوله :﴿إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ فيه وجوه : الأول : معنى ﴿إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ علمنا قبحه وفساده، ونصب الأدلة على أنه باطل. الثاني : أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئاً منه إجراء الكلام على حكم التغليب. والثالث : أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم، أو اعتقدوا أنه كان كذلك. فقوله :﴿بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ أي حسب معتقدكم وزعمكم.
أما قوله :﴿وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٩