والوجه الثاني : لهم أن قالوا : إن قوله :﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَـاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضاً بخلق الله، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة.
واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب.
أما قوله :﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه : قال القاضي : قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب :﴿إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا ﴾ معناه : إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات، فحينئذ يكلفنا بها، والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء، فلذلك أتبعه بهذا القول. وقال أصحابنا : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، هو أن القوم لما قالوا لشعيب : إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا، فقال شعيب :﴿وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ﴾ فربما كان في علمه حصول قسم ثالث، وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت / أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا، وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي، لأن قوله :﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ لائق بهذا الوجه، لا بما قاله القاضي.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٩
المسألة الثانية : قوله :﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ يدل على أنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء، لأن قوله :﴿وَاسِعُ﴾ فعل ماض، فيتناول كل ماض. وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالماً بجميع المعلومات. وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال، لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله، والشقي من شقي في علم الله.
المسألة الثالثة : قوله :﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ يدل على أنه علم الماضي، والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون، فهذه أقسام أربعة، ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه. أما الماضي : فإنه علم أنه لما كان ماضياً، فإنه كيف كان. وعلم أنه لو لم يكن ماضياً، بل كان حاضراً، فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلاً كيف يكون. وعلم أنه لو كان عدماً محضاً كيف يكون، فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي، واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال، وبحسب المستقبل، وبحسب المعدوم المحض، فيكون المجموع ستة عشر، ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح، وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها، فحينئذ يلوح لعقلك من قوله :﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله.
المسألة الرابعة : قال الواحدي : قوله :﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ منصوب على التمييز.
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين : الأول : بالتوكل على الله. فقال :﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ فهذا يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب، وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب. والثاني : الدعاء. فقال :﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ قال ابن عباس والحسن وقتادة، والسدي : احكم واقض. وقال الفراء : أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما كنت أدري قوله :﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك. قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله :﴿افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف، والمراد منه : أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب وقومه محقين، وعلى هذا الوجه يراد به الكشف والتبيين.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٩
ثم قال :﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْفَـاتِحِينَ﴾ والمراد منه الثناء على الله. واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه / هو الذي يخلق الإيمان من العبد، وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات، ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين، فلا شك أن الإيمان كذلك.
إذا ثبت هذا فنقول : لو كان الموجد للإيمان هو العبد، لكان خير الفاتحين هو العبد، وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣١٩
٣٢٠