المسألة الثانية : المعنى أو لم نبين للذين نبعثهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها فنهلكهم بعدهم ؟
وهو معنى لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، أي عقاب ذنوبهم، وقوله :﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم ﴿فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ أي لا يقبلون، ولا يتعظون، ولا ينزجرون. وإنما قلنا : إن المراد إما الإهلاك. وإما الطبع على القلب، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب، فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه.
المسألة الثالثة : استدل أصحابنا على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان بقوله :﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد على ما قررناه في آيات كثيرة. قال الجبائي : المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان. وقال الكعبي : إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى :﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا﴾ (نوح : ٦).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٢٤
واعلم أن البحث عن حقيقة الطبع والختم قد مر مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الرابعة : قوله :﴿وَنَطْبَعُ﴾ هل هو منقطع عما قبله أو معطوف على ما قبله. فيه قولان :
القول الأول : أنه منقطع عن الذي قبله، لأن قوله : ماض وقوله :﴿بِذُنُوبِهِم وَنَطْبَعُ﴾ مستقبل وهذا العطف ليس بمستحسن، بل هو منقطع عما قبله، والتقدير : ونحن نطبع على قلوبهم.
والقول الثاني : أنه معطوف على ما قبله. قال صاحب "الكشاف" : هو معطوف على ما دل عليه معنى ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ كأنه قيل يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم أو معطوف على قوله :﴿يَرِثُونَ الارْضَ﴾ ثم قال : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على ﴿أَصَبْنَـاهُم﴾ لأنهم كانوا كفاراً وكل كافر فهو مطبوع على قلبه، فقوله بعد ذلك :﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يجري مجرى تحصيل الحاصل. وهو محال، هذا تقرير قول صاحب "الكشاف" على أقوى الوجوه وهو ضعيف، لأن كونه مطبوعاً عليه إنما يحصل حال استمراره وثباته عليه، فهو يكفر أولاً، ثم يصير مطبوعاً عليه في الكفر، فلم يكن هذا منافياً لصحة العطف.
ثم قال تعالى :﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآئِهَا ﴾ قوله :﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ صفة و﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ خبر/ والمراد بتلك القرى قرى الأقوام الخمسة الذين وصفهم فيما سبق، وهم : قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، نقص عليك من أخبارها كيف أهلكت. وأما أخبار غير هؤلاء الأقوام، فلم نقصها عليك، وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق، فذكرها الله تعالى تنبيهاً لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال.
ثم عزاه الله تعالى بقوله :﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ﴾ يريد الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وقوله :﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ﴾ فيه قولان : الأول : قال ابن عباس والسدي : فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم، فآمنوا كرهاً، وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب. الثاني : قال الزجاج :﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ﴾ بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات. الثالث : ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنواب ما كذبوا به من قبل إهلاكهم، ونظيره قوله :﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ (الإنعام : ٢٨) الرابع : قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر، فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضاً. الخامس : ليؤمنوا في الزمان المستقبل.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٢٤
ثم إنه تعالى بين السبب في عدم هذا القبول فقال :﴿كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـافِرِينَ﴾ قال الزجاج : والكاف في ﴿كَذَالِكَ﴾ نصب، والمعنى : مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبداً. والله أعلم بحقائق الأمور.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٢٤
٣٢٤


الصفحة التالية
Icon