ثم قالوا :﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ معنى الإفراغ في اللغة الصب. يقال : درهم مفرغ إذا كان مصبوباً في قالبه وليس بمضروب، وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ، فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإلأناء. قال مجاهد : المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع، وفي الآية فوائد :
الفائدة الأولى :﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أكمل من قوله : أنزل علينا صبراً، لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية، فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه.
والفائدة الثانية : أن قوله ﴿صَبْرًا﴾ مذكور بصيغة التنكير، وذلك يدل على الكمال والتمام، أي صبراً كاملاً تاماً كقوله تعالى :﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ﴾ (البقرة : ٩٦) أي على حياة كاملة تامة.
والفائدة الثالثة : إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم، ثم إنهم طلبوه من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه. قال القاضي : إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر، وذلك معلوم في الأدعية.
والجواب : هذا عدول عن الظاهر، ثم الدليل يأباه، وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل، فيكون الكل من الله تعالى.
وأما قوله :﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى، ووجه الاستدلال به ظاهر. والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق.
المسألة الثانية : احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد. فقال إنهم قالوا أولاً ﴿مِنَّآ إِلا أَنْ﴾ ثم قالوا ثانياً :﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان، وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٠
٣٤٢
اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه، بل خلى سبيله فقال قومه له :﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَه لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾.
واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه. وقوله :﴿لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه، وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك.
أما قوله :﴿وَيَذَرَكَ﴾ فالقراءة المشهورة فيه ﴿وَيَذَرَكَ﴾ بالنصب. وذكر صاحب "الكشاف" : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون قوله :﴿وَيَذَرَكَ﴾ عطفاً على قوله :﴿لِيُفْسِدُوا ﴾ لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، كان ذلك مؤدياً إلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. وثانيها : أنه جواب للاستفهام بالواو، وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة :
ألم أك جاركم ويكون بيني
وبينكم المودة والآخاء ؟
والتقدير : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك. قال الزجاج : والمعنى / أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى ؟
وثالثها : النصب بإضمار أن تقديره : أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك ؟
قال صاحب "الكشاف" : وقرىء ﴿وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ ﴾ بالرفع عطفاً على ﴿أَتَذَرُ﴾ بمعنى أتذره ويذرك ؟
أي انطلق له، وذلك يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى أتذره هو يذرك وإلهتك ؟
وقرأ الحسن ﴿وَيَذَرَكَ﴾ بالجزم، وقرأ أنس بالنون والنصب، أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٢


الصفحة التالية
Icon