جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٥
المسألة الثانية : قال القاضي : هذه الآية تدل على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكروا، لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر.
أجاب الواحدي عنه : بأنه قد جاء لفظ الابتلاء والاختبار في القرآن، لا بمعنى أنه تعالى يمتحنهم، لأن ذلك على الله تعالى محال، بل بمعنى أنه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء والامتحان، فكذا ههنا. والله أعلم.
ثم بين تعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال :﴿فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَـاذِه ﴾ قال ابن عباس : يريد بالحسنة العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة ﴿وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ﴾ أي نحن مستحقون على العادة التي جرت من كثرة نعمنا وسعة أرزاقنا، ولم يعلموا أنه من الله فيشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه. وقوله :﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ ﴾ يريد القحط والجدب والمرض والضر والبلاء ﴿يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَه ا ﴾ أي يتشاءموا به. ويقولوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين وقوله :﴿يَطَّيَّرُوا ﴾ هو في الأصل يتطيروا، أدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا وقوله :﴿أَلا إِنَّمَا طَـا اـاِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ﴾ في الطائر قولان :
القول الأول : قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله تعالى أي من قبل الله أي إنما جاءهم الشر بقضاء الله وحكمه، فالطائر ههنا الشؤم. ومثله قوله تعالى في قصة ثمود :﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَا قَالَ طَـا اـاِرُكُمْ عِندَ اللَّه ﴾ قال الفراء : وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة، فقالوا غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا، قال الأزهري : وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة، لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها، والتطير ببارحها، ونعيق غربانها، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها.
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طيرتهم باطلة، فقال :﴿لا﴾ وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتفاءل، ولا يتطير. وأصل الفأل الكلمة الحسنة، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الفأل وأبطل الطيرة قال محمد الرازي رحمه الله :/ ولا بد من ذكر فرق بين البابين. والأقرب أن يقال : إن الأرواح الإنسانية أصفى وأقوى من الأرواح البهيمية والطيرية. فالكلمة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها بخلاف طيران الطير، وحركات البهائم، فإن أرواحها ضعيفة، فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٥
القول الثاني : في تفسير الطائر قال أبو عبيدة :﴿بِمُوسَى وَمَن مَّعَه ا أَلا إِنَّمَا طَـا اـاِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ﴾ أي حظهم. وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إنما طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم والعرب تقول : أطرت المال وطيرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه. أي حصل له ذلك السهم.
واعلم أن على كلا القولين، المعنى : أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أن الكل من الله تعالى، وذلك لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطونها عن قضاء الله تعالى وتقديره، والحق أن الكل من الله، لأن كل موجود، فهو إما واجب الوجود لذاته أو ممكن لذاته، والواجب واحد وما سواه ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذته، وبهذا الطريق يكون الكل من الله فإسنادها إلى غير الله يكون جهلاً بكمال الله تعالى.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٥
٣٤٧
اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره، فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أنواع الجهالة والضلالة، وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر، وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم. وقالوا لموسى : إنا لا نقبل شيئاً منها ألبتة. وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon