إذا عرفت هدا فنقول : الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ابن عباس، وقد روى عطاء عنه أنه قال : الطوفان هو الموت، وروى الواحدي رحمه الله بإسناده خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"الطوفان هو الموت". وهذا القول مشكل لأنهم لو أميتوا لم يكن لإرسال سائر أنواع العذاب عليهم فائدة، بل لو صح هذا الخبر لوجب حمل لفظ الموت على حصول أسباب الموت، مثل المطر الشديد والسيل العظيم وغيرهما، وأما الجراد، فهو معروف والواحدة جرادة، ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه. وقال اللحياني : أرض جردة ومجرودة قد لحسها الجراد، وإذا أصاب الجراد الزرع قيل جرد الزرع وأصل هذا كله من الجرد، وهو أخذك الشيء عن الشيء على سبيل النحت والسحق، ومنه يقال للثوب الذي قد ذهب وبره جرد وأرض جردة لا نبات فيها، وأما القمل، فقد اختلفوا فيه. فقيل هو الدبى الصغار الذي لا أجنحة له، وهي بنات الجراد، وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً. فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم، فقالوا : قد تيقنا الآن أنك ساحر عليم. وعزة فرعون لا نؤمن بك أبداً، وقرأ الحسن ﴿وَالْقُمَّلَ﴾ بفتح القاف، وسكون الميم. يريد القمل المعروف. وأما الدم فما ذكرناه. ونقل صاحب "الكشاف" أنه قيل : سلط الله عليهم الرعاف. وروي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات.
وأما قوله تعالى :﴿مُفَصَّلَـاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا ﴾ ففيه وجوه : أحدها :﴿مُفَصَّلَـاتٍ﴾ أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وثانيها :﴿مُفَصَّلَـاتٍ﴾ أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة ؟
والدليل : أو يستمرون على الخلاف والتقليد. قال المفسرون : كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فهذا معنى قوله :﴿مُفَصَّلَـاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا ﴾ قال الزجاج : وقوله :﴿ءَايَـاتُ﴾ منصوبة على الحال. وقوله :﴿فَاسْتَكْبَرُوا ﴾ يريد عن عبادة الله ﴿وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ مصرين على الجرم والذنب. ونقل أيضاً أن هذه الأنواع المذكورة من العذاب كانت عند وقوعها مختصة بقوم فرعون، وكان بنو إسرائيل منها في أمان وفراغ، ولا شك أن كل واحد منها فهو في نفسه معجز، واختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز آخر.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٧
فإن قال قائل لما علم الله تعالى من حال أولئك الأقوام أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات، فما الفائدة في تواليها وإظهار الكثير منها ؟
وأيضاً فقوم محمد صلى الله عليه وسلّم طلبوا المعجزات فما أجيبوا فما الفرق.
والجواب : أما على قول أصحابنا فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، وأما على قول المعتزلة في رعاية الصلاح، فلعله علم من قوم موسى أن بعضهم كان يؤمن عند ظهور تلك المعجزات الزائدة، وعلم من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم أن أحداً منهم لا يزداد بعد ظهور تلك المعجزات الظاهرة إلا كفراً وعناداً، فظهر الفرق. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٤٧
٣٤٨
اعلم أنا ذكرنا معنى الرجز عند قوله :﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ﴾ (البقرة : ٥٩) في سورة البقرة وهو اسم للعذاب، ثم إنهم اختلفوا في المراد بهذا الرجز فقال بعضهم : إنه عبارة عن الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب الذي كان نازلاً بهم. وقال سعيد بن جبير ﴿الرِّجْزَ﴾ معناه : الطاعون وهو العذاب الذي أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد، فتركوا غير مدفونين، واعلم أن القول الأول أقوى لأن لفظ ﴿الرِّجْزَ﴾ لفظ مفرد محلي بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق، وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدم ذكرها، وأما غيرها فمشكوك فيه، فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى بين ما كانوا عليه من المناقضة القبيحة، لأنهم تارة يكذبون موسى عليه السلام، وأخرى عند الشدائد يفزعون إليه نزع الأمة إلى نبيها ويسألونه أن يسأل ربه رفع ذلك العذاب عنهم، وذلك يقتضي أنهم سلموا إليه كونه نبياً مجاب الدعوة، ثم بعد زوال تلك الشدائد يعودون إلى تكذيبه والطعن فيه، وأنه إنما يصل إلى مطالبة بسحره، فمن هذا الوجه يظهر / أنهم يناقضون أنفسهم في هذه الأقاويل.
وأما قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : ما في قوله :﴿بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ مصدرية والمعنى : بعهده عندك وهو النبوة، وفي هذه الباء وجهان :
الوجه الأول : أنها متعلقة بقوله :﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ والتقدير ﴿ادْعُ لَنَا﴾ متوسلاً إليه بعهده عندك.


الصفحة التالية
Icon