ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال :﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الآشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به.
فإن قالوا : إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى/ فما الوجه في قبح هذه العبادة ؟
قلنا : فعلى هذا التقدير : لم يتخذوها آلهة أصلاً وإنما جعلوها كالقبلة، وذلك ينافي قولهم ﴿اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ﴾ واعلم أن ﴿مَآ﴾ في قوله :﴿كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ﴾ يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة، ويجوز أن تكون موصولة، وفي قولهم :﴿لَهُمْ﴾ ضمير يعود إليه، و﴿ءَالِهَةً﴾ بدل من ذلك الضمير تقديره : كالذي هو لهم آلهة.
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال :﴿إِنَّ هَـا ؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ قال الليث : التبار الهلاك. يقال : تبر الشيء يتبر تباراً والتتبير الإهلاك، ومنه قوله تعالى :﴿تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ ويقال للذهب المنكسر المتفتت : التبر فقوله :﴿مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ أي مهلك مدمر، وقوله :﴿وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قيل : البطلان عدم الشيء، إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده، والمراد من بطلان عملهم : أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سبباً لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها. فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى، تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سبباً لأعراض القلب عن ذكر الله تعالى ؛ وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل، وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب، والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب، فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٥١
٣٥١
اعلم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنهم لما قالوا له :﴿اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ﴾ فهو عليه السلام ذكر في الجواب وجوهاً : أولها : أنه حكم عليهم بالجهل فقال :﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ وثانيها : أنه قال :﴿إِنَّ هَـا ؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ أي سبب للخسران والهلاك. وثالثها : أنه قال :﴿وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعاً في الدنيا والدين. ورابعها : ما ذكره في هذه الآية من التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال :﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـاهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ والمعنى : أن الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ، بل الإله هو الله الذي يكون / قادراً على الأنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم، وهو المراد من قوله :﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته، فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره. قال الواحدي رحمه الله : يقال : بغيت فلاناً شيئاً وبغيت له. قال تعالى :﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ (التوبة : ٤٧) أي يبغون لكم، وفي انتصاب قوله :﴿إِلَـاهًا﴾ وجهان : أحدهما : الحال كأنه قيل : أطلب لكم غير الله معبوداً، ونصب ﴿غَيْرِ﴾ في هذا الوجه على المفعول به. الثاني : أن ينصب ﴿إِلَـاهًا﴾ على المفعول به ﴿وَغَيْرُ﴾ على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول : أبغيكم إلها غير الله. وقوله :﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ فيه قولان : الأول : المراد أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم. الثاني : أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال، ومثاله : رجل تعلم علماً واحداً وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد، إلا أن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٥١
٣٥١
واعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه، تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة، فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٥١
٣٥٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو :﴿وَعَدَنَا﴾ بغير ألف، والباقون ﴿وَعَدَنَا﴾ بالألف على المفاعلة، وقد مر بيان هذه القراءة في سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon