وأما التأويل الثالث : فبعيد أيضاً ويدل عليه وجوه : الأول : أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمراً أنظر إلى أمرك، ثم حذف المفعول والمضاف، إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا، وهو قوله :﴿أَنظُرْ إِلَيْكَا قَالَ لَن تَرَانِى﴾ (الأعراف : ١٤٣) فسوف تراني ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ﴾ ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف. الثاني : أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وإظلال الجبل، فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة. والثالث : أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة. ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول : أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود ؟
ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد. الرابع : أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده، لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات / ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك، فثبت أن هذا القول فاسد. وأما التأويل الرابع وهو أن يقال : المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه، فهو أيضاً بعيد، لأنه لو كان المراد ذلك، لكان الواجب أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل، وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية. علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٥٩
الحجة الثانية : من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال : لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله، فإنه يقول له هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكل. ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة، لقال له : لا تأكلها أي هذا مما يؤكل، ولكنك لا تأكله. فلما قال تعالى :﴿لَن تَرَانِى﴾ ولم يقل لا أرى، علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية.
الحجة الثالثة : من الوجوه المستنبطة من هذه الآية، أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز، والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة. إنما قلنا : إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز، لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل، بدليل قوله تعالى :﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى ﴾ واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه. فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه.
إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها، لأنه لما كان ذلك الشرط أمراً جائز الوجود، لم يلزم من فرض وقوعه محال، فبتقدير حصول ذلك الشرط، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول، وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله، إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية، وذلك باطل.
فإن قيل : إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته/ واستقرار الجبل حال حركته محال. فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول، لا على شرط جائز الحصول، فلم يلزم صحة ما قلتموه ؟
والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال : إنه حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان ساكناً أو متحركاً، فإن كان الأول، لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط، وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقراً، ولما لم يكن مستقراً كان متحركاً. فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية، كان متحركاً لا ساكناً. فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقراً حال كونه ساكناً / فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية، هو كون الجبل مستقراً حال كونه متحركاً، وأنه شرط محال.
والجواب : هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجوداً كان واجب الوجود، ولو أخذته بشرط كونه معدوماً كان واجب العدم، فلو أخذته من حيث هو هو قطع النظر عن كونه موجوداً أو كونه معدوماً كان ممكن الوجود. فكذا ههنا الذي جعل شرطاً في اللفظ هو استقرار الجبل، وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطاً أمر ممكن الوجود جائز الحصول، وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٥٩