المسألة السادسة : الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي/ وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة ؛ لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة، وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى. أما قوله :﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : هذه إما أن تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبراً "لأن" والجملة قبلها اعتراض.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٠
المسألة الثانية : احتج أهل السنّة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله :﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى ا أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (يس : ٧) وقوله :﴿ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ إلى قوله :﴿سَأُرْهِقُه صَعُودًا﴾ (المدثر : ١١، ١٧) وقوله :﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ﴾ (المسد : ١) على تكليف ما لا يطلق، وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر لله تعالى الصدق كذباً، والكذب عند الخصم قبيح وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما محالان على الله، والمفضي إلى المحال محال، فصدور الإيمان منه محال فالتكليف به تكليف بالمحال، وقد يذكر هذا في صورة العلم، هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلاً، وذلك محال ومستلزم المحال محال. فالأمر واقع بالمحال. ونذكر هذا على وجه ثالث : وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان ؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقاً لو حصل عدم الإيمان، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً وهو محال، فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود، وكل ذلك محال ونذكر هذا على وجه رابع : وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان ألبتة، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط، وهذا تكليف بالجمع بين النفي / والإثبات، ونذكر هذا على وجه خامس : وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله :﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـامَ اللَّه قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ (الفتح : ١٥) فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى، وذلك منهي عنه. ثم ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه، وترك محاولة الإيمان يكون أيضاً مخالفة لأمر الله تعالى، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل، فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال. ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع، وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه : قالت المعتزلة : لنا في هذه الآية مقامان : المقام الأول : بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعاً من الإيمان، والمقام الثاني : بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل، أما المقام الأول فقالوا : الذي يدل عليه وجوه : أحدها : أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٠


الصفحة التالية
Icon