الوجه الثالث : وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت، أن المسرف هو الذي ينفق المال / الكثير لأجل الغرض الخسيس، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جداً في مقابلة سعادات الدار الآخرة. والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة، فوجب أن يكون من المسرفين.
البحث الثالث : الكاف في قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ﴾ للتشبيه. والمعنى : كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكرزين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٢
٢٢٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون :﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الأنفال : ٣٢) ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى الله تعالى في إزالتها والكشف لها، بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم، والغرض منه أن يكون ذلك رادعاً لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، لأنهم متى سمعوا أن الله تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مراراً كثيرة. صار ذلك رادعاً لهم وزاجراً عن ذكر ذلك الكلام، فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" ﴿لَمَّآ﴾ ظرف لأهلكنا، والواو في قوله :﴿وَجَآءَتْهُمْ﴾ للحال، أي ظلموا بالتكذيب. وقد جاءتهم رسلهم بالدلائل والشواهد على صدقهم وهي المعجزات، / وقوله :﴿وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ﴾ يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا، وأن يكون اعتراضاً، واللام لتأكيد النفي، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر وهذا يدل على أنه تعالى إنما أهلكهم لأجل تكذيبهم الرسل، فكذلك يجزى كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله، وقرىء ﴿يُجْزَى ﴾ بالياء وقوله :﴿ثُمَّ جَعَلْنَـاكُمْ خَلَـا اـاِفَ﴾ الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم، لننظر كيف تعملون، خيراً أو شراً، فنعاملكم على حسب عملكم. بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : كيف جاز النظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة ؟
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٣
والجواب : أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه، وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين.
السؤال الثاني : قوله :﴿ثُمَّ جَعَلْنَـاكُمْ خَلَـا اـاِفَ فِى الارْضِ مِنا بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ مشعر بأن الله تعالى ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم.
والجواب : المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم، ليجازيهم بحسبه كقوله :﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾ (هود : ٧) وقد مر نظائر هذا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" وقال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيراً، بالليل والنهار.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : موضع ﴿كَيْفَ﴾ نصب بقوله :﴿تَعْمَلُونَ﴾ لأنها حرف، لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ولو قلت : لننظر خيراً تعملون أم شراً، كان العالم في خير وشر تعملون.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٣
٢٢٥
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلّم، حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها.
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره، علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه.
المسألة الثانية : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن. الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر، كما قال :﴿إِنَّا كَفَيْنَـاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ﴾ (الحجر : ٩٥) فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات :﴿قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـاذَآ أَوْ بَدِّلْه ﴾ وفيه بحثان :


الصفحة التالية