قلنا : قال ابن الأنباري : اذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفاً من أن يكون ذلك اذكاراً لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضاً أن يقال : حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضاً لذلك الشرابي. وأما قوله :﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ خطاب إما للملك والجمع أو للملك وحده على سبيل التعظيم، أما قوله :﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ ففيه محذوف، والتقدير : فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق، والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذباً وقيل : لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه، وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل، فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٥
أما قوله تعالى :﴿لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها، فلهذا السبب قال :﴿لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ﴾.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٥
٤٦٦
اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال :﴿تَزْرَعُونَ﴾ وهو خبر بمعنى الأمر، كقوله :﴿وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ (البقرة : ٢٢٨) ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾ (البقرة : ٢٣٣) وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر، ويخرج الأمر في صورة الخير للمبالغة في الإيجاب، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه والدليل على كونه في معنى الأمر قوله :﴿فَذَرُوهُ فِى سُنابُلِه ﴾ وقوله :﴿دَأَبًا﴾ قال أهل اللغة : الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأباً ودأباً أي زراعة متوالية في هذه السنين. قال أبو علي الفارسي : الأكثرون في دأب الإسكان ولعل الفتحة لغة، فيكون كشمع وشمع، ونهر ونهر. قال الزجاج : وانتصب دأباً على معنى تدأبون دأباً. وقيل : إنه مصدر وضع في موضع الحال، وتقديره تزرعون دائبين فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون كل ما أردتم أكله فدوسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه، لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح ﴿ثُمَّ يَأْتِى مِنا بَعْدِ ذَالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ أي سبع سنين مجدبات، والشداد الصعاب التي تشتد على الناس، وقوله :﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ هذا مجاز، فإن السنة لا تأكل فيجعل أكل أهل تلك السنين مسنداً إلى السنين. وقوله :﴿إِلا قَلِيلا مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ الإحصان الإحراز، وهو إلقاء الشيء في الحصن يقال أحصنه إحصاناً إذا جعله في حرز، والمراد إلا قليلاً مما تحرزون أي تدخرون وكلها ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله :﴿ثُمَّ يَأْتِى مِنا بَعْدِ ذَالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ قال المفسرون السبعة المتقدمة سنو الخصب وكثرة النعم والسبعة الثانية سنو القحط والقلة وهي معلومة من الرؤيا، وأما حال هذه السنة فما حصل في ذلك المنام شيء يدل عليه بل حصل ذلك من الوحي فكأنه عليه السلام ذكر أنه يحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم، وعن قتادة زاده الله علم سنة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٦
فإن قيل : لما كانت العجاف سبعاً دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد، ومن المعلوم أن الحاصل بعد انقضاء القحط هو الخصب وكان هذا أيضاً من مدلولات المنام، فلم قلتم إنه حصل بالوحي والإلهام ؟
قلنا : هب أن تبدل القحط بالخصب معلوم من المنام، أما تفصيل الحال فيه، وهو قوله :﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ لا يعلم إلا بالوحي، قال ابن السكيت يقال : غاث الله البلاد يغيثها غيثاً إذا أنزل فيها الغيث وقد غيثت الأرض تغاث، وقوله :﴿يُغَاثُ النَّاسُ﴾ معناه يمطرون، ويجوز أن / يكون من قولهم : أغاثه الله إذا أنقذه من كرب أو غم، ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب، وقوله :﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ أي يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً، وهذا يدل على ذهاب الجدب وحصول الخصب والخير، وقيل : يحلبون الضروع، وقرىء ﴿يَعْصِرُونَ﴾ من عصره إذا نجاه، وقيل : معناه يمطرون من أعصرت السحابة إذا عصرت بالمطر، ومنه قوله :﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجًا﴾ (النبأ : ١٤).
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٦
٤٦٩