البحث الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمراً قدره الله. وقال الزجاج : إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون. وقال ابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم، وهذه الكلمات متقاربة، وحاصلها أن الحذر لا يدفع القدر.
البحث الثاني : قوله :﴿مِن شَىْءٍ﴾ يحتمل النصب بالمفعولية والرفع بالفاعلية.
أما الأول : فهو كقوله : ما رأيت من أحد، والتقدير : ما رأيت أحداً، فكذا ههنا تقدير الآية : أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً، أي ذلك التفرق ما كان يخرج شيئاً من تحت قضاء الله تعالى.
وأما الثاني : فكقولك : ما جاءني من أحد، وتقديره ما جاءني أحد فكذا ههنا التقدير : ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
أما قوله :﴿إِلا حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَا ـهَا ﴾ فقال الزجاج : إنه استثناء منقطع، والمعنى : لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، يعني أن الدخول على صفة التفرق قضاء حاجة في نفس يعقوب قضاها، ثم ذكروا في تفسير تلك الحاجة وجوهاً : أحدها : خوفه عليهم من إصابة العين، وثانيها : خوفه عليهم من حسد أهل مصر، وثالثها : خوفه عليهم من أن يقصدهم ملك مصر بشر، ورابعها : خوفه عليهم من أن لا يرجعوا إليه، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وأما قوله :﴿وَإِنَّه لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَـاهُ﴾ فقال الواحدي : يحتمل أن يكون ﴿مَآ﴾ مصدرية والهاء عائدة إلى يعقوب، والتقدير : وإنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه، ويمكن أن تكون ﴿مَآ﴾ بمعنى الذي والهاء / عائدة إليها، والتأويل وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه، يعني أنا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء وفي الآية قولان آخران : الأول : أن المراد بالعلم الحفظ، أي أنه لذو حفظ لما علمناه ومراقبة له والثاني : لذو علم لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وهو إشارة إلى كونه عاملاً بما علمه، ثم قال :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ وفيه وجهان : الأول : ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علم يعقوب. والثاني : لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم، والمراد بأكثر الناس المشركون، فإنهم لا يعلمون بأن الله كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٥
٤٨٧
اعلم أنهم لما أتوه بأخيه بنيامين أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدة ثم أمر أن ينزل منهم كل اثنين بيتاً وقال : هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه، ولما رأى يوسف تأسفه على أخ له هلك قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال : من يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقال : إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿إِلَيْهِ أَخَاه قَالَ﴾ أي أنزله في الموضع الذي كان يأوي إليه. وقوله :﴿إِنِّى أَنَا أَخُوكَ﴾ فيه قولان : قال وهب : لم يرد أنه أخوه من النسب، ولكن أراد به إني / أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد. والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب، لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة، فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة.
وأما قوله :﴿فَلا تَبْتَـاـاِسْ﴾ فقال أهل اللغة : تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس. وقوله :﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فيه وجوه : الأول : المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا، الثاني : أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافياً مع إخوته، فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معه أيضاً، فقال :﴿فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم، ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها. الثالث : أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه، لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام، فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام، فأمنه منه وقال : لا تلتفت إلى ذلك فإن الله قد جمع بيني وبينك. الرابع : روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام، وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها. فقال له :﴿فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا. والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٧