واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم لله تعالى وهي قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (لقمان : ٣٤) ﴿أَنزَلَه بِعِلْمِه ﴾ (النساء : ١٦٦) ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه ﴾ (البقرة : ٢٥٥) ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه ﴾ (فاطر : ١١) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم، إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم، والمشتق مركب والمشتق منه مفرد، وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٨٩
٤٩١
اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤسهم وقالوا : هذه الواقعة عجيبة أن راحيل ولدت ولدين لصين، ثم قالوا : يا بني راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم، فقال بنيامين ماأكثر البلاء علينا منكم ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة، ثم تقولون لي هذا الكلام، قالوا له : فكيف خرج الصواع من رحلك، فقال : وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم.
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك : إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضاً سارقاً، وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى، واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال : الأول : قال سعيد بن جبير : كان جده أبو أمه كافراً يعبد الأوثان فأمرته / أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك، فهذا هو السرقة، والثاني : أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء، وقيل سرق عناقاً من أبيه ودفعه إلى المسكين وقيل دجاجة. والثالث : أن عمته كانت تحبه حباً شديداً فأرادت أن تمسكه عند نفسها، وكان قد بقي عندها منطقة لاسحق عليه السلام وكانوا يتبركون بها فشدتها على وسط يوسف ثم قالت بأنه سرقها وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق، فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. والرابع : أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على يوسف بعد تلك الوقائع، وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة، وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل ألبتة.
ثم قال تعالى :﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِه وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ﴾ واختلفوا في أن الضمير في قوله :﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ﴾ إلى أي شيء يعود على قولين قال الزجاج : فأسرها إضمار على شريطة التفسير، تفسيره أنتم شر مكاناً وإنما أنث لأن قوله :﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا ﴾ جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال : فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله :﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا ﴾ وفي قراءة ابن مسعود ﴿فَأَسْرِ﴾ بالتذكير يريد القول أو الكلام وطعن أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على الزجاج من وجهين :
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٩١
الوجه الأول : قال الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين : أحدهما : أن يفسر بمفرد كقولنا : نعم رجلاً زيد ففي نعم ضمير فاعلها، ورجلاً تفسير لذلك الفاعل المضمر والآخر أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله :﴿فَإِذَا هِىَ شَـاخِصَةٌ أَبْصَـارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (الأنبياء : ٩٧) ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (الصمد : ١) والمعنى القصة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر الله أحد. ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً نحو إن كقوله :﴿إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا﴾ (طه : ٧٤) ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ﴾ (الحج : ٤٦).
إذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة ولا مبايناً لها. وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار فوجب أن لا يحسن. والثاني : أنه تعالى قال :﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا ﴾ وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام، ولو قلنا : إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله أنه قال ذلك كذباً. واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه :
أما الأول : فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث.
وأما الثاني : فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال.