المسألة الثانية : قيل إن روبيل لما عزم على الإقامة بمصر أمره الملك أن يذهب مع إخوته فقال أتركوني وإلا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا وتضع حملها فقال يوسف دعوه ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال : يا بني لا تخرجوا من عندي مرة إلا ونقص بعضكم، ذهبتم مرة فنقص يوسف، وفي الثانية نقص شمعون، وفي هذه الثالثة نقص روبيل وبنيامين، ثم بكى وقال : عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً وإنما حكم بهذا الحكم لوجوه : الأول : أنه لما طال حزنه وبلاؤه ومحنته علم أنه تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب فقال ذلك / على سبيل حسن الظن برحمة الله. والثاني : لعله تعالى قد أخبره من بعد محنة يوسف أنه حي أو ظهرت له علامات ذلك وإنما قال :﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ لأنهم حين ذهبوا بيوسف كانوا إثني عشر فضاع يوسف وبقي أحد عشر، ولما أرسلهم إلى مصر عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال :﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الارْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى ﴾ (يوسف : ٨٠) فلما كان الغائبون ثلاثة لا جرم ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا ﴾.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٩٦
ثم قال :﴿إِنَّه هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ يعني هو العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٩٦
٥٠٢
واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جداً وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم.
أما المقام الأول : وهو أنه أعرض عنهم، وفر منهم فهو قوله :﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ﴾.
واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على / يوسف عليه السلام :﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى ا إِلَيْهِ أَخَاه قَالَ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه :
الوجه الأول : أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع وقال متمم بن نويرة :
وقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى
فدعني فهذا كله قبر مالك
وذلك لأنه إذا رأى قبراً فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه، فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى. وقال آخر :
فلم تنسني أو في المصيبات بعده
ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
والوجه الثاني : أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل، فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد.
الوجه الثالث : أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا، وكان الأسف عليه أسفاً على الكل. الرابع : أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها. وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه، وأما السبب الحقيقي فما كان معلوماً له، وأيضاً أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت، فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٠٢
المسألة الثانية : من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله :﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ قال : لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية من الله وأنه لا يجوز، والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل، وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه، وهو المراد من قوله :﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ﴾ ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر مالا ينبغي، وهو المراد من قوله :﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله :﴿إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ﴾ وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء العظيم. روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل / هل لك علم بيعقوب ؟
قال نعم قال : وكيف حزنه ؟
قال : حزن سبعين ثكلى وهي التي لها ولد واحد ثم يموت. قال : فهل له فيه أجر ؟
قال : نعم أجر مائة شهيد.


الصفحة التالية
Icon