اعلم أنه روي أن يوسف عليه السلام وجه إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم تلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر. قال : لا هذا ولدك يوسف فذهب يوسف يبدأ بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب عليه السلام : السلام عليك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى والمقاتلون منهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ.
أما قوله :﴿إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : في المراد بقوله أبويه قولان : الأول : المراد أبوه وأمه، وعلى هذا القول فقيل إن أمه كانت باقية حية إلى ذلك الوقت، وقيل إنها كانت قد ماتت، إلا أن الله تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقاً لرؤية يوسف عليه السلام.
والقول الثاني : أن المراد أبوه وخالته، لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين، وقيل : بنيامين بالعبرانية ابن الوجع، ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى بأحد الأبوين، لأن / الرابة تدعى، إما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب، ومنه قوله تعالى :﴿وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ﴾ (البقرة : ١٣٣).
البحث الثاني : آوى إليه أبويه ضمهما إليهما واعتنقهما.
فإن قيل : ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر ؟
قلنا : كأنه حين استقبلهم نزل بهم في بيت هناك أو خيمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال لهم :﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٤
أما قوله :﴿دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى ا إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ ففيه أبحاث :
البحث الأول : قال السدي إنه قال : هذا القول قبل دخولهم مصر ؛ لأنه كان قد استقبلهم وهذا هو الذي قررناه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بقوله :﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ أي أقيموا بها آمنين، سمى الإقامة دخولاً لاقتران أحدهما بالآخر.
البحث الثاني : الاستثناء وهو قول :﴿إِن شَآءَ اللَّهُ﴾ فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول، والمعنى : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله، ونظيره قوله تعالى :﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ﴾ (الفتح : ٢٧) وقيل إنه عائد إلى الدخول على القول الذي ذكرناه إنه قال لهم هذا الكلام قبل أن دخلوا مصر.
البحث الثالث : معنى قوله :﴿ءَامِنِينَ﴾ يعني على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحداً، وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر وقيل آمنين من القحط والشدة والفاقة، وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف.
أما قوله :﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ قال أهل اللغة : العرش السرير الرفيع قال تعالى :﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ (النمل : ٢٣) والمراد بالعرش ههنا السرير الذي كان يجلس عليه يوسف/ وأما قوله :﴿وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا ﴾ ففيه إشكال، وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة عظيم قال تعالى :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ (الإسراء : ٢٣) فقرن حق الوالدين بحق نفسه، وأيضاً أنه كان شيخاً، والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ.
والقول الثالث : أنه كان من أكابر الأنبياء ويوسف وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه.
والقول الرابع : أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال.
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجداً لله تعالى، وحاصل الكلام : أن ذلك السجود كان سجوداً للشكر فالمسجود له هو الله، إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله :﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا ﴾ مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير، ثم سجدوا له، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٤
فإن قالوا : فهذا التأويل لا يطابق قوله :﴿وَقَالَ يَـا أَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـاىَ مِن قَبْلُ﴾ والمراد منه قوله :﴿إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ﴾ (يوسف : ٤).