البحث الثاني : اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة، وقيل : سبعون، وقيل : أربعون، وهو قول الأكثرين، ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة، وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة والله أعلم بحقائق الأمور.
ثم قال :﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِى ﴾ أي إلي يقال : أحسن بي وإليه. قال كثير :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن ثقلت
إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه : الأول : أنه قال لإخوته ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾ ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جاراً مجري الكرم/ الثاني : أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً، أما لما خرج من السجن صيروه ملكاً فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً، الثالث : أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة، الرابع : قال الواحدي : النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سبباً للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم قال :﴿وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية قولان :
القول الأول : جاء بكم من البدو أي من البداية، وقال الواحدي : البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدواً، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال : بدو / وحضر وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية.
والقول الثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها قال ابن الأنباري : بدا اسم موضع معروف يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثير فقال :
وأنت التي حببت شعباً إلى بدا
إلى وأوطاني بلاد سواهما
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال : غار القوم غوراً إذا أتوا الغور فكان معنى الآية وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلى ههنا كلام قاله الواحدي في "البسيط".
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٤
المسألة الثانية : تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى، لأن خروج العبد من السجن أضافه إلى نفسه بقوله :﴿إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ﴾ ومجيئهم من البدو وأضافه إلى نفسه سبحانه بقوله :﴿وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ﴾ وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل الله تعالى وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار الله تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر.
ثم قال :﴿مِنا بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَـانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى ﴾ قال صاحب "الكشاف" :﴿نَّزَغَ﴾ أفسد بيننا وأغوى وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري : يقال : نزغه ونسغه إذا نخسه.
واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي : احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا : لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان، ولو كان ذلك أيضاً من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم.
والجواب : أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز، لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي وقد أخبر الله عنه فقال :﴿وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ﴾ (إبراهيم : ٢٢) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك. وأيضاً فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشيطان فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان وليس إيضاً بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة، ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع/ وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من الله تعالى، ثم الذي / يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله :﴿إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ﴾ صريح في أن الكل من الله تعالى.


الصفحة التالية