وأما قوله :﴿جَآءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور ﴿جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ﴾ قرأ عاصم وابن عامر ﴿فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ﴾ بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله، واختاره أبو عبيدة لأنه في المصحف بنون واحدة. وروي عن الكسائي : إدغام إحدى النونين في الأخرى وقرأ بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء، قال بعضهم : هذا خطأ لأن النون متحركة فلا تدغم في الساكن، ولا يجوز إدغام النون في الجيم، والباقون بنونين، وتخفيف الجيم وسكون الياء على معنى : ونحن نفعل بهم ذلك.
واعلم أن هذا حكاية حال، ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال كما أن قوله :﴿مِن شِيعَتِه وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّه ﴾ (القصص : ١٥) إشارة إلى الحاضر والقصة ماضية.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٢٢
٥٢٤
اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، والمراد منه التأمل والتفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور : الأول : أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم، وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة، لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته. الثاني : أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب، فيكون معجزة دالة على صدق محمد / صلى الله عليه وسلّم، الثالث : أنه ذكر في أول السورة ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف : ٣) ثم ذكر في آخرها :﴿لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ ﴾ تنبيهاً على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة. والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه، ومن الناس من قال : المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام.
فإن قيل : لم قال :﴿عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ ﴾ مع أن قوم محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك.
قلنا : إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل، أو نقول : المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها، لأن ﴿لاوْلِى الالْبَـابِ ﴾ لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه، واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات.
الصفة الأولى : كونها ﴿عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ ﴾ وقد سبق تقريره.
الصفة الثانية : قوله :﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ﴾ وفيه قولان : الأول : أن المراد الذي جاء به وهو محمد صلى الله عليه وسلّم لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت، والثاني : أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه، لأنه لا يصح الكذب منه، ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال :﴿وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية، ونصب تصديقاً على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى :﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾ (الأحزاب : ٤٠) قاله الفراء والزجاج، ثم قال : ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى : ولكن هو تصديق الذي بين يديه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٢٤
والصفة الثالثة : قوله :﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ وفيه قولان : الأول : المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته، والثاني : أنه عائد إلى القرآن، كقوله :﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ (الأنعام : ٣٨) فإن جعل هذا الوصف وصفاً لكل القرآن أليق من جعله وصفاً لقصة يوسف وحدها، ويكون المراد : ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين. قال الواحدي على التفسيرين جميعاً : فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله :﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ ﴾ (الأعراف : ١٥٦) يريد : كل شيء يجوز أن يدخل فيها وقوله :﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ﴾ (النمل : ٢٣).