والقول الثالث : رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات : ١٠) ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة، وعن / الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم ؟
قالوا : من خراسان. فقال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين، وأقول حاصل الكلام : أن قوله :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ﴾ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله :﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله.
القيد الرابع : قوله :﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ والمعنى : أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله، وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستولياً على قلبه وهذه الخشية نوعان : أحدهما : أن يكون خائفاً من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته، بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها. والثاني : وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة.
القيد الخامس : قوله :﴿وَيَخَافُونَ سُواءَ الْحِسَابِ﴾ اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب، وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٨
القيد السادس : قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار، والغموم والأحزان، والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات. ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه : أحدها : أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل. وثانيها : أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع. وثالثها : أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء. ورابعها : أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلاً في كمال النفس وسعادة القلب، أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه، بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك، لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقاً في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين، فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه، وطلب رضا الله تعالى.
واعلم أن قوله :﴿ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ فيه دقيقة، وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه، فربما نظر العاشق لذلك الضارب وفرح به فقوله :﴿ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ محمول على هذا المجاز، يعني كما أن العاشق يرضى بذلك الضرب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه، فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة، ويرضى به لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة.
القيد السابع : قوله :﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ﴾.
واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيهاً على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضاً.
القيد الثامن : قوله تعالى :﴿وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الحسن : المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية. وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام، وقال آخرون : بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله :﴿سِرًّا﴾ يرجع إلى التطوع وقوله : يرجع إلى الزكاة الواجبة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٨
المسألة الثانية : قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الانفاق من كل ما كان رزقاً، وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقاً لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز.


الصفحة التالية
Icon