والجواب من وجوه : الأول، أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة، سكنت قلوبهم إلى ذلك، وأحد الأمرين لا ينافي الآخر، لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي، وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات. الثاني : أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزاً يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلى الله عليه وسلّم نبياً حقاً من عند الله. أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم. الثالث : أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأن محمداً صلى الله عليه وسلّم صادق في كل ما أخبر عنه، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا، وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا.
واعلم أن لنا في قوله :﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ﴾ أبحاثاً دقيقة غامضة وهي من وجوه :
الوجه الأول : أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يتأثر، ومتأثر لا يؤثر، وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء، فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى، والمتأثر الذي لا يؤثر هو الجسم، فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية، وليس له خاصية إلا القبلو فقط. وأما الموجود الذي يؤثر تارة ويتأثر أخرى، فهي الموجودات الروحانية، وذلك لأنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده وإذا توجهت إلى عالم / الأجسام اشتقات إلى التصرف فيها، لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام.
وإذا عرفت هذا. فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها، أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية، فهناك يكون ساكناً فلهذا السبب قال :﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
الوجه الثاني : أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أخرى أشرف منها، لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة. أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر فلم يقدر على الانتقال منه ألبتة، لأن ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل ؛ فلهذا المعنى قال :﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
والوجه الثالث : في تفسير هذه الكلمة أن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهباً باقياً على كر الدهور والأزمان، صابراً على الذوبان الحاصل بالنار، فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهراً باقياً صافياً نورانياً لا يقبل التغيير والتبدل، فلهذا قال :﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
ثم قال تعالى :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَـاَابٍ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير كلمة ﴿طُوبَى ﴾ ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها اسم شجرة في الجنة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة"، وحكى أبو بكر الأصم رضي الله عنه : أن أصل هذه الشجرة في دار النبي صلى الله عليه وسلّم وفي دار كل مؤمن منها غصن.
والقول الثاني : وهو قول أهل اللغة إن طوبى مصدر من طاب، كبشرى وزلفى، ومعنى طوبى لك، أصبت طيباً، ثم اختلفوا على وجوه : فقيل : فرح وقرة عين لهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل : نعم ما لهم عن عكرمة، وقيل غبطة لهم عن الضحاك. وقيل : حسنى لهم عن قتادة. وقيل : خير وكرامة عن أبي بكر الأصم، وقيل : العيش الطيب لهم عن الزجاج.
واعلم أن المعاني متقاربة والتفاوت يقرب من أن يكون في اللفظ. والحاصل أنه مبالغة في نيل الطيبات ويدخل فيه جميع اللذات، وتفسيره أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم.
والقول الثالث : أن هذه اللفظة ليست عربية، ثم اختلفوا فقال بعضهم : طوبى اسم الجنة بالحبشية، وقيل اسم الجنة بالهندية. وقيل البستان بالهندية، وهذا القول ضعيف، لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما واشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٧
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ مبتدأ و﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ خبره، معنى طوبى لك أي أصبت طيباً، ومحلها النصب أو الرفع، كقولك طيباً لك وطيب لك وسلاماً لك وسلام لك، والقراءة في قوله :﴿وَحُسْنُ مَـاَابٍ﴾ بالرفع والنصب تدلك على محلها، وقرأ مكوزة الأعرابي (طيب لهم).