﴿قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِه ا إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَـاَابِ﴾ وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به، وفيه فوائد : أولها : أن كلمة "إنما" للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى، وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك. وثانيها : أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك. وثالثها : أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل، فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته، وما يجب ويجوز ويستحيل عليه. ورابعها : أن عبادة الله واجبة، وهو / يبطل قول نفاة التكليف، ويبطل القول بالجبر المحض. وخامسها : قوله :﴿وَلا أُشْرِكَ بِه ﴾ وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية، ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى سواء قال : إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية. وسادسها : قوله :﴿إِلَيْهِ أَدْعُوا ﴾ والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته. وسابعها : قوله :﴿وَإِلَيْهِ مَـاَابِ﴾ وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٨
٤٩
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل إلى ما تقدم من الأنبياء، أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم، كذلك أنزلنا عليك القرآن. والكناية في قوله :﴿أَنزَلْنَـاهُ﴾ تعود إلى "ما" في قوله :﴿يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يعني القرآن.
المسألة الثانية : قوله :﴿أَنزَلْنَـاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ﴾ فيه وجوه : الأول : حكمة عربية مترجمة بلسان العرب. الثاني : القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف، فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن، فلما كان القرآن سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. الثالث : أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكماً.
واعلم أن قوله :﴿حُكْمًا عَرَبِيًّا ﴾ نصب على الحال، والمعنى : أنزلناه حال كونه حكماً عربياً.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : الآية دالة على حدوث القرآن من وجوه : الأول : أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث. الثاني : أنه وصفه بكونه عربياً والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاً. الثالث : أن الآية دالة على أنه إنما / كان حكماً عربياً، لأن الله تعالى جعله كذلك ووصفه بهذه الصفة، وكل ما كان كذلك فهو محدث.
والجواب : أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه والله أعلم.
المسألة الرابعة : روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائه فتوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد أن حوله الله عنها. قال ابن عباس : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته، وقيل : بل الغرض منه حث الرسول عليه السلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، ويتضمن ذلك أيضاً تحذير جميع المكلفين، لأن من هو أرفع منزلة إذا حذر هذا التحذير فهم أحق بذلك وأولى.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٩
٥٢
اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشبهات في إبطال نبوته.
فالشبهة الأولى قولهم :﴿هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِ ﴾ (الفرقان : ٧) وهذه الشبهة إنما ذكرها الله تعالى في سورة أخرى.
والشبهة الثانية : قولهم : الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة كما حكى الله عنهم في قوله :﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة ﴾ (الحجر : ٧) وقوله :﴿لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ (الأنعام : ٨).
فأجاب الله تعالى عنه ههنا بقوله :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضاً مثله في حقه.