القول الأول : أن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ، وجميع حوادث العالم العلوي والعالم السفلي مثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"كان الله ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة" قال المتكلمون : الحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات على سبيل التفصيل، وعلى هذا التقدير : فعند الله كتابان : أحدهما : الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق وذلك الكتاب محل المحو والإثبات. والكتاب الثاني : هو اللوح المحفوظ، وهو الكتاب المشتمل على تعين جميع الأحوال العلوية والسفلية، وهو الباقية. روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم :"أن الله سبحانه وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وللحكماء في تفسير هذين الكتابين كلمات عجيبة وأسرار غامضة.
والقول الثاني : إن أم الكتاب هو علم الله تعالى، فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الموجودات والمعدومات وإن تغيرت، إلا أن علم الله تعالى بها باق منزه عن التغير، فالمراد بأم الكتاب هو ذاك. والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٢
٥٢
اعلم أن المعنى :﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب :﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل ذلك، والمعنى :/ سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمانته ورسالته وعلينا الحساب. والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالسراج والأداء.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٢
٥٤
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك، بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت. وقوله :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ فيه أقوال :
القول الأول : المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده. ونظيره قوله تعالى :﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآا أَفَهُمُ الْغَـالِبُونَ﴾ (الأنبياء : ٤٤) وقوله :﴿سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ﴾ (فصلت : ٥٣).
والقول الثاني : وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله :﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ المراد : موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار، وقال الواحدي : وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول. ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع، وتقريره أن يقال : أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين، ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله، وقيل :﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة / كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع ؟
ثم قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى :﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه ﴾ معناه : لا راد لحكمه، والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٤
فإن قيل : ما محل قوله :﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه ﴾.
قلنا : هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع.
ثم قال :﴿وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ قال ابن عباس : يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعاً قريباً لا يدفعه دافع.
أما قوله :﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى.


الصفحة التالية
Icon