البحث الثاني : قرأ ابن كثير :﴿مَّقَامًا﴾ بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد والندى المجلس يقال : ندى وناد، والجمع الأندية، ومنه قوله :﴿وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ﴾ (العنكبوت : ٢٩) وقال :﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَه ﴾ (العلق : ١٧) ويقال : ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في المجلس، ومنه دار الندوة بمكة وكانت مجتمع القوم. ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٦٠
٥٦١
وتقرير هذا الجواب أن يقال : إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم، فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيباً لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غماً في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحداً من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى وهي أن من وجد الدنيا كان حبيباً لله تعالى، أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غماً، وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة، بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول : أهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم وهم أحسن في محل النصب صفة لكم، ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية، والأثاث متاع البيت، أما رئياً فقرىء على خمسة أوجه لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة، أو بالزاي التي فوقها نقطة فأما الأول، فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفي بالياء. أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان : أحدهما : بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئياً. والثاني : ريئاً على القلب كقولهم راء في رأى، أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء، والإدغام، أو من الري الذي هو النعمة والترفه، من قولهم : ريان من النعيم. والثاني : بالياء على حذف الهمزة رأساً ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئاً بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها، وأما بالزاي المنقطة من فوق زياً فاشتقاقه من الزي وهو الجمع، لأن الزي محاسن مجموعة، والمعنى أحسن من هؤلاء، والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٦١
٥٦٢
اعلم أن هذا الجواب الثاني عن تلك الشبهة وتقريره لنفرض أن هذا الضال المتنعم في الدنيا قد مد الله في أجله وأمهله مدة مديدة حتى ينضم إلى النعمة العظيمة المدة الطويلة، فلا بد وأن ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة بعد ذلك سيعلمون أن نعم الدنيا ما تنقذهم من ذلك العذاب فقوله :﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا﴾ مذكور في مقابلة قولهم :﴿خَيْرٌ مَّقَامًا﴾ (مريم : ٧٣) ﴿وَأَضْعَفُ جُندًا﴾ في مقابلة قولهم :﴿أَحْسَنُ أَثَـاثًا وَرِءْيًا﴾ (مريم : ٧٣) فبين تعالى أنهم وإن ظنوا في الحال أن منزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله تعالى بالمقام والندى فسيعلمون من بعد أن الأمر بالضد من ذلك وأنهم شر مكاناً فإنه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب. ﴿وَأَضْعَفُ جُندًا﴾ فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أن اجتماعهم ينفع فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه. بقي البحث عن الألفاظ وهو من وجوه : أحدها : مد له الرحمن أي أمهله وأملى له في العمر فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور الممتثل ليقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة :﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ (فاطر : ٣٧) وكقولهم :﴿إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ﴾. وثانيها : أن قوله :﴿إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾ يدل على أن المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة لأن قوله ﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ﴾ المراد منه يوم القيامة ثم العذاب الذي يحصل قبل يوم القيامة يمكن أن يكون هو عذاب القبر ويمكن أن يكون هو العذاب الذي سيكون عند المعاينة لأنهم عند ذلك يعلمون ما يستحقون، ويمكن أيضاً أن يكون المراد تغير أحوالهم في الدنيا من العز إلى الذل، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى المرض، ومن الأمن إلى الخوف، ويمكن أن يكون المراد تسليط المؤمنين عليهم، ويمكن أيضاً أن يكون المراد ما نالهم يوم بدر، وكل هذه الوجوه مذكورة، واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما / ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى، واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل، فنقول : إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطاً بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطاً بالبعض، فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط، فصح قوله :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٦٢