الفائدة الثانية : وهي أنهم لما شاهدوا أن الله تعالى خصهما بتلك المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة لا جرم قالوا : رب هرون وموسى لأجل ذلك، ثم إن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أن يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله تعالى وبرسوله ففي الحال ألقى شبهة أخرى في النبي فقال :﴿قَالَ ءَامَنتُمْ لَه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُم إِنَّه لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ﴾ وهذا الكلام مشتمل على شبهتين. إحداهما : قوله :﴿قَالَ ءَامَنتُمْ لَه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ﴾ وتقريره أن الاعتماد على الخاطر الأول غير جائز بل لا بد فيه من البحث والمناظرة والاستعانة بالخواطر، فلما لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال :﴿لَه قَبْلَ﴾ دل ذلك على أن إيمانكم ليس عن البصيرة بل عن سبب آخر. وثانيها : قوله :﴿إِنَّه لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ يعني أنكم تلامذته في السحر فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه، ثم بعد إيراد الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم في ذلك فقال :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٧٧
﴿لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ﴾ قرىء لأقطعن ولأصلبن بالتخفيف. والقطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين خلاف الآخر، فإن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال وقوله :﴿مِّنْ خِلَـافٍ﴾ في محل النصب على الحال أي : لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ثم قال :﴿وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ فشبه تمكن المصلوب في الجذع يتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قال في جذوع النخل والذي يقال في المشهور أن في بمعنى على فضعيف ثم قال :﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ أراد بقوله :﴿أَيُّنَآ﴾ نفسه لعنه الله لأن قوله :﴿أَيُّنَآ﴾ يشعر بأنه أراد نفسه وموسى عليه السلام بدليل قوله :﴿لَه قَبْلَ﴾ وفيه تصالف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب واستضعاف موسى عليه السلام مع الهزء به لأن موسى عليه السلام قط لم / يكن من التعذيب في شيء، فإن قيل : إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية بتلك العظمة التي شرحتموها وذكرتم أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون وآل الأمر إلى أن استغاث بموسى عليه السلام من شر ذلك الثعبان فمع قرب عهده بذلك وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ويستهزىء بموسى عليه السلام في قوله :﴿أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ قلنا لم لا يجوز أن يقال : إنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه كان يظهر تلك الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره، ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أن العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء/ ومما يدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذاب الله أشد من عذاب البشر، ثم إنه أنكر ذلك، وأيضاً فقد كان عالماً بكذبه في قوله :﴿إِنَّه لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ لأنه علم أن موسى عليه السلام ما خالطهم ألبتة وما لقيهم وكان يعرف من سحرته أن أستاذ كل واحد من هو وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه مع ذلك كان يقول هذه الأشياء فثبت أن سبيله في كل ذلك ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما :"كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء".
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٧٧
٨٠