وثالثها : قوله :﴿وَلا تَخْشَى ﴾ والمعنى أنك لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء أما قوله :﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِه ﴾ قال أبو مسلم : زعم رواة اللغة أن أتبعهم وتبعهم واحد وذلك جائز ويحتمل أن تكون الباء زائدة والمعنى أتبعهم فرعون جنوده كقوله تعالى :﴿لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى ﴾ (طه : ٩٤) أسرى بعبده وقال الزجاج : قرىء :(فأتبعهم فرعون وجنوده) أي ومعه جنوده وقرىء :﴿بِجُنُودِه ﴾ ومعناه ألحق جنوده بهم ويجوز أن يكون بمعنى معهم أما قوله :﴿فَغَشِيَهُم﴾ فالمعنى : علاهم وسترهم وما غشيهم تعظيم للأمر أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقرىء :(فغشاهم من اليم ما غشيهم) وفاعل غشاهم إما الله سبحانه وتعالى أو ما غشيهم أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب في هلاكهم أما قوله :﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَه وَمَا هَدَى ﴾ فاحتج القاضي به وقال لو كان الضلال من خلق الله تعالى لما جاز أن يقال وأضل فرعون قومه بل وجب أن يقال الله تعالى أضلهم ولأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يجوز أن يكون خالقاً للكفر لأن من ذم غيره بشيء لا بد وأن يكون هو غير فاعل لذلك الفعل وإلا لاستحق ذلك الذم وقوله :﴿وَمَا هَدَى ﴾ تهكم به في قوله :﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر : ٢٩) ولنذكر القصة وما فيها من المباحث. قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر وكان موسى عليه السلام وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون إليه فخرج بهم ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين وقد كان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر فلم يخرجوا بها فتحير القوم حتى دلتهم عجوز على موضع العظام فأخذوها فقال موسى عليه السلام للعجوز : احتكمي فقالت : أكون معك في الجنة. وذكر ابن عباس أن محمداً صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر هجموا على رجل من العرب وامرأة ليس لهم إلا عنز فذبحوها لهما فقال عليه السلام : إذا سمعت برجل قد ظهر بيثرب فاته فلعل الله يرزقك منه خيراً، فلما سمع بظهور الرسول صلى الله عليه وسلّم أتاه مع امرأته فقال : أتعرفني ؟
قال : نعم عرفتك فقال له : احتكم، فقال : ثمانون ضانية فأعطاه إياها وقال له :"أما إن عجوز بني إسرائيل خير منك" وخرج فرعون في طلب موسى عليه السلام وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب فلما انتهى موسى إلى البحر قال : ههنا أمرت ثم قال موسى عليه السلام للبحر : انفرق فأبى، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فقال لهم موسى عليه السلام : ادخلوا فيه فقالوا : كيف وأرضه رطبة فدعا الله فهبت عليه الصبا فجفت فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر فأقبل فرعون إلى تلك الطرق فقال قومه له : إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى وكان على فرس حصان وأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون وأبصر الحصان الفرس الحجر فاقتحم بفرعون على أثرها وصاحت الملائكة في الناس / الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم، فقالوا : ما هذا يا موسى ؟
قال : قد أغرق الله فرعون وقومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا : يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل عليه السلام قال : يا محمد لو رأيتني وأنا أدس فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب فهذا معنى قوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٨٢
﴿فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ وفي القصة أبحاث.
البحث الأول : روي في الأخبار أن موسى عليه السلام لما ضرب بعصاه البحر حصل اثنا عشر طريقاً يابساً يتهيأ طروقه وبقي الماء قائماً بين الطريق والطريق كالطود العظيم وهو الجبل. فأخذ كل سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق. ومنهم من قال : بل حصل طريق واحد وحجة القول الأول الأخبار ومن القرآن قوله تعالى :﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ (الشعراء : ٦٣) وذلك لا يحصل إلا إذا حصل هناك طرق حتى يكون الماء القائم بين الطريقين كالطود العظيم وحجة القول الثاني ظاهر قوله :﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ وذلك يتناول الطريق الواحد وإن أمكن حمله على الطرق نظراً إلى الجنس.
البحث الثاني : روي أن بني إسرائيل بعد أن أظهر موسى عليه السلام لهم الطريق وبينها لهم تعنتوا وقالوا : نريد أن يرى بعضنا بعضاً وهذا كالبعيد وذلك أن القوم لما أبصروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الخوف والخائف إذا وجد طريق الفرار والخلاص كيف يتفرغ للتعنت البارد.