أما قوله تعالى :﴿هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى ﴾ ففيه مسألتان :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٣٤
المسألة الأولى : في تفسيره وفيه أقوال : أحدها :﴿هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ﴾ أي هذا هو الكتاب المنزل على من معي :﴿هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى ﴾ أي الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وهو التوراة والإنجيل والزبور والصحف، وليس في شيء منها أنى أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا :﴿إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا ﴾ كما قال بعد هذا :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وهذا قول ابن عباس واختيار القفال والزجاج. والثاني : وهو قول سعيد ابن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله :﴿وَذِكْرُ مَن قَبْلِى ﴾ صفة للقرآن فإنه كما يشتمل على أحوال هذه الأمة فكذا يشتمل على أحوال الأمم الماضية. الثالث : ما ذكره القفال وهو أن المعنى قل لهم هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على بيان أحوال من معي من المخالفين والموافقين وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين فاختاروا لأنفسكم، كأن الغرض منه التهديد.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرىء :﴿هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى ﴾ بالتنوين ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله :﴿أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا﴾ (البلد : ١٤، ١٥) وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله :﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الارْضِ وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ (الروم : ٢، ٣) وقرىء : من معي ومن قبلي، بكسر ميم من على ترك الإضافة في هذه القراءة وإدخال الجار على مع غريب والعذر فيه أنه اسم هو ظرف نحو قبل وبعد فدخل من عليه كما يدخل على إخواته وقرىء : ذكر معي وذكر قبلي.
وأما قوله :﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّا فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد وطالبهم بالدلالة على ما ادعوه وبين أنه لا دليل لهم ألبتة عليه لا من جهة العقل ولا من جهة السمع، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه، بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله وهو عدم العلم/ ثم ترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٣٤
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قرىء :﴿الْحَقِّ ﴾ بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
أما قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ فاعلم أن يوحى ونوحى قراءتان مشهورتان، وهذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٣٤
١٣٦
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد فقال :﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَدًا﴾ نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله وأضافوا إلى ذلك أنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال :﴿وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ﴾ (الصافت : ١٥٨) ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله سبحانه لأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، ثم لا بد وأن يخالفه من وجه آخر وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله سبحانه وتعالى وكل مركب ممكن، فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكناً غير واجب. وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية، ولذلك نزه نفسه عنه.
أما قوله :﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ فاعلم أنه سبحانه لما نزه نفسه عن الولد أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد وقرىء :﴿مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَه ﴾ من سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى أنهم يتبعونه في قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله، وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً كذلك مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به.