البحث الأول : أن هذا العموم مخصوص فإنه تعالى نفس لقوله :﴿تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ﴾ (المائدة : ١١٦) مع أن الموت لا يجوز عليه وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت، والعام المخصوص حجة فيبقى معمولاً به فيما عدا هذه الأشياء، وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية لا تموت. والثاني : الذوق ههنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق بل الذوق إدراك خاص فيجوز جعله مجازاً عن أصل الإدراك، وأما الموت فالمراد منه ههنا مقدماته من الآلام العظيمة لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه وحال وجوده يصير الشخص ميتاً ولا يدرك شيئاً. والثالث : الإضافة في ذائقة الموت في تقدير الإنفصال لأنه لما يستقبل كقوله :﴿غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ﴾ (المائدة : ١)، و﴿هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ (المائدة : ٩٥).
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٤
أما قوله تعالى :﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةًا وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الابتلاء لا يتحقق إلا مع التكليف، فالآية دالة على حصول التكليف وتدل على أنه سبحانه وتعالى لم يقتصر بالمكلف على ما أمر ونهى وإن كان فيه صعوبة بل ابتلاه بأمرين : أحدهما : ما سماه خيراً وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من المرادات. والثاني : ما سماه شراً وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، فبين تعالى أن العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين، لكي يشكر على المنح ويصبر في المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم.
المسألة الثانية : إنما سمي ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم / لأنه في صورة الاختبار.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" :﴿فِتْنَةً﴾ مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.
المسألة الرابعة : احتجت التناسخية بقوله :﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ فإن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه. والجواب : أنه مذكور مجازاً.
المسألة الخامسة : المراد من قوله :﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ أنهم يرجعون إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته، فبين بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد، واستدلت التناسخية بهذه الآية، وقالوا : إن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه، وقد كنا موجودين قبل دخولنا في هذا العالم واستدلت المجسمة بأنا أجسام، فرجوعنا إلى الله تعالى يقتضي كون الله تعالى جسماً. والجواب عنه قد تقدم في مواضع كثيرة.
أما قوله تعالى :﴿وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا﴾ قال السدي ومقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلّم وكان أبو سفيان مع أبي جهل، فقال أبو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف، فقال أبو سفيان : وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف. فسمع النبي صلى الله عليه وسلّم قولهما فقال لأبي جهل :"ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان : فإنما قلت ما قلت حمية" فنزلت هذه الآية، ثم فسر الله تعالى ذلك بقوله :﴿هُزُوًا أَهَـاذَا الَّذِى يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ﴾ والذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل سمعت فلاناً يذكرك، فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء، وإن كان عدواً فهو ذم، ومنه قوله تعالى :﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَه ا إِبْرَاهِيمُ﴾ (الأنبياء : ٦٠) والمعنى أنه يبطل كونها معبودة ويقبح عبادتها.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٤
وأما قوله تعالى :﴿وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَـن ِ هُمْ كَـافِرُونَ﴾ فالمعنى أنه يعيبون عليه ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع ﴿وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ﴾ الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت ﴿كَـافِرُونَ﴾ ولا فعل أقبح من ذلك، فيكون الهزؤ واللعب والذم عليهم يعود من حيث لا يشعرون، ويحتمل أن يراد ﴿بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ﴾ القرآن والكتب، والمعنى في أعادتهم أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل، والثانية إبانة لاختصاصهم به، وأيضاً فإن في أعادتها تأكيداً وتعظيماً لفعلهم.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٤
١٤٦
أما قوله تعالى :﴿خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ ففيه مسائل :