أما قوله تعالى :﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ فاعلم أن هذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء وهو كقوله :﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِا وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ﴾ (العنكبوت : ٥٣) فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، ثم إنه سبحانه ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجهين : الأول : بأن بين ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال :﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ قال صاحب "الكشاف" : جواب لو محذوف وحين مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم :﴿مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ﴾ وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدام ومن خلف فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون أيضاً ناصراً ينصرهم لقوله تعالى :/ ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا ﴾ (غافر : ٢٩) لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم وإنما حسن حذف الجواب لأن ما تقدم يدل عليه. وهذا أبلغ ومثله :﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ (البقرة : ١٦٥)، ﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (الأنفال : ٥٠)، ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ (الرعد : ٣١) وإنما خص الوجوه والظهور لأن مس العذاب لهما أعظم موقعاً ولكثرة ما يستعمل ذكرهما في دفع المضرة عن النفس ثم إنه تعالى لما بين شدة هذا العذاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم بل تأتيهم الساعة بغتة وهم لها غير محتسبين ولا لأمرها مستعدين فتبهتهم أي تدعهم حائرين واقفين لا يستطيعون حيلة في ردها ولا عما يأتيهم منها مصرفاً ولا هم ينظرون أي لا يمهلون لتوبة ولا معذرة، واعلم أن الله تعالى إنما لم يعلم المكلفين وقت الموت والقيامة لما فيه من المصلحة لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذراً وأقرب إلى التلافي، ثم إنه سبحانه ذكر الوجه الثاني في دفع الحزن عن قلب رسوله فقال :﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِى َ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ يا محمد كما استهزأ بك قومك ﴿فَحَاقَ﴾ أي نزل وأحاط ﴿بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ﴾ أي عقوبة استهزائهم وحاق وحق بمعنى كزال وزل وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم/ والمعنى فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٦
١٤٧
اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة فقال لرسوله : قل لهؤلاء الكفار الذين يستهزءون ويغترون بما هم عليه :﴿مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه إلى أين مقرك منى هل لك محيص عني والكالىء الحافظ.
وأما قوله :﴿مِّنَ الرَّحْمَـانِ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في معناه وجوه : أحدها :﴿مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَـن ِ ﴾ أي مما يقدر على إنزاله بكم من عذاب تستحقونه. وثانيها : من بأس الله في الآخرة. وثالثها : من القتل والسبي وسائر ما أباحه الله لكفرهم فبين سبحانه أنه لا حافظ لهم ولا دافع عن هذه الأمور لو أنزلها بهم ولولا تفضله بحفظهم لما عاشوا ولما متعوا بالدنيا.
المسألة الثانية : إنما خص ههنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل : أنت الكالىء يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك، كما في قوله :﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ (الانفطار : ٦) إنما خص اسم الكريم بالذكر تلقيناً للجواب.
المسألة الثالثة : إنما ذكر الليل والنهار لأن لكل واحد من الوقتين آفات تختص به والمعنى من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معايشكم.
أما قوله :﴿بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ﴾ فالمعنى أنه تعالى مع إنعامه عليهم ليلاً ونهاراً بالحفظ والحراسة فهم عن ذكر ربهم الذي هو الدلائل العقلية والنقلية ولطائف القرآن معرضون فلا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالىء لهم سواه ويتركون عبادة الأصنام التي لا حظ لها في حفظهم ولا في الإنعام عليهم.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٤٧