﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : محل الذين جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه وفي معنى الغيب وجوه : أحدها : يخشون عذاب ربهم فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه وإيمانهم بالله غيبي استدلالي، فالعباد يعملون لله في الغيب والله لا يغيب عنه شيء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وثانيها : يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها. وثالثها : يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس وهذا هو الأقرب، والمعنى أن خشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم إلا أن ذلك مما يظهرونه في الملا دون الخلا ﴿وَهُم مِّنَ﴾ عذاب ﴿السَّاعَةَ﴾ وسائر ما يجري فيها من الحساب والسؤال ﴿مُشْفِقُونَ﴾ فيعدلون بسبب ذلك الإشفاق عن معصية الله تعالى، ثم قال وكما أنزلت عليهم الفرقان فكذلك هذا القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله :﴿وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ﴾ بركته كثرة منافعه وغزارة علومه وقوله :﴿أَفَأَنتُمْ لَه مُنكِرُونَ﴾ فالمعنى أنه لا إنكار في إتزانه وفي عجائب ما فيه فقد آتينا موسى وهرون التوراة، ثم هذا القرآن معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البديعة واشتماله على الأدلة العقلية وبيان الشرائع، فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره.
(القصة الثانية، (قصة) إبراهيم عليه السلام)
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥٠
١٥٢
اعلم أن قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الرشد قولان : الأول : أنه النبوة واحتجوا عليه بقوله :﴿وَكُنَّا بِه عَـالِمِينَ﴾ قالوا : لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب / ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول. والثاني : أنه الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا قال تعالى :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ﴾ وفيه قول ثالث وهو أن تدخل النبوة والاهتداء تحت الرشد إذ لا يجوز أن يبعث نبي إلا وقد دله الله تعالى على ذاته وصفاته ودله أيضاً على مصالح نفسه ومصالح قومه وكل ذلك من الرشد.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا في أن الإيمان مخلوق لله تعالى بهذه الآية فإنه لو كان الرشد هو التوفيق والبيان فقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم. أجاب الكعبي : بأن هذا يقال فيمن قبل لا فيمن رد، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه. فيقال : أغنى فلان ابنه فيمن أثمر المال، ولا يقال مثله فيمن ضيع. والجواب عنه : هذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرشد وذلك باطل، لأن المسمى إذا كان مركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدور الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى ذلك الفاعل فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه ﴾ صريح أن ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل ما قالوه.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قرىء رشده كالعدم والعدم، ومعنى إضافته إليه أنه رشد مثله وأنه رشد له شأن.
أما قوله تعالى :﴿مِن قَبْلُ﴾ ففيه وجوه : أحدها ؛ آتينا إبراهيم نبوته واهتداءه من قبل موسى عليه السلام عن ابن عباس وابن جرير. وثانيها : في صغره قبل بلوغه حين كان في السرب وظهرت له الكواكب فاستدل بها. وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته عليه السلام قبل البلوغ عن مقاتل. وثالثها : يعني حين كان في صلب آدم عليه السلام حين أخذ الله ميثاق النبيين عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥٢
أما قوله تعالى :﴿وَكُنَّا بِه عَـالِمِينَ﴾ فالمراد أنه سبحانه علم منه أحوالاً بديعة وأسراراً عجيبة وصفات قد رضيها حتى أهله لأن يكون خليلاً له، وهذا كقولك في رجل كبير : أنا عالم بفلان فإن هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت جلال كماله.
أما قوله تعالى :﴿إِذْ قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِه ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : إذ إما أن تتعلق بآتينا أو برشده أو بمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت.
أما قوله :﴿مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـاكِفُونَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : التمثال اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به واسم ذلك الممثل تمثال.
المسألة الثانية : أن القوم كانوا عباد أصنام على صور مخصوصة كصورة الإنسان أو غيره/ فجعل عليه السلام هذا القول منه ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيبطلها عليهم.


الصفحة التالية
Icon