﴿إِنِّى سَقِيمٌ﴾ وقوله :﴿بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَـاذَا﴾ وقوله لسارة هي أختي" وفي خبر آخر :"أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال : إني كذبت ثلاث كذبات" ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحاً لذاته، فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان، وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه، وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو، واعلم أن هذا القول مرغوب عنه. أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه، فلنجوز هذا / الاحتمال في كل ما أخبروا عنه، وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها، ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام :"إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب".
فأما قوله تعالى :﴿إِنِّى سَقِيمٌ﴾ فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه.
وأما قوله :﴿بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ﴾ فقط ظهر الجواب عنه.
أما قوله لسارة : إنها أختي، فالمراد أنها أخته في الدين، وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق.
أما قوله تعالى :﴿فَرَجَعُوا إِلَى ا أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ ففيه وجوه : الأول : أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور وجهل في ذلك. والثاني : قال مقاتل : فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وثالثها : المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب، والأقرب هو الأول.
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـا ؤُلاءِ يَنطِقُونَ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : نكسه قلبه فجعل أسفله أعلاه وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في المعنى وجوه : أحدها : أن المراد استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وأتوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا فقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا (في) المجادلة بالباطل وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة. وثانيها : قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخذالاً مما بهتهم به إبراهيم فما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة عليهم. وثالثها : قال ابن جرير ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم. أي قلبوا في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم، فقالوا :﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـا ؤُلاءِ يَنطِقُونَ﴾ فأقروا بهذه للحيرة التي لحقتهم، قال والمعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥٧
المسألة الثانية : قرىء نكسوا بالتشديد ونكسوا على لفظ ما لم يسم فاعله، أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود.
أما قوله تعالى :﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْـاًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّه أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ فالمعنى ظاهر. قال صاحب "الكشاف" : أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، وإن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ثم يحتمل أنه قال لهم ذلك وقد عرفوا صحة قوله. ويحتمل أنه قال لهم ذلك وقد ظهرت الحجة وإن لم يعقلوا. وهذا هو الأقرب لقوله :/ ﴿أَفَتَعْبُدُونَ﴾ ولقوله :﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٥٧
١٦٠
اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم، وأنهم :﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ﴾ وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ليس في القرآن من القائل لذلك والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح، وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس، وروى ابن جريج عن وهب عن شعيب الجبائي قال : إن الذي قال حرقوه رجل اسمه هبرين، فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.