المسألة الثانية : أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام، ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف، بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهي وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق، وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال : كيف سخرهن ؟
فقال : يسبحن. والطير إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه. فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير ؟
قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز/ لأنها جماد والطير حيوان ناطق.
أما قوله :﴿وَكُنَّا فَـاعِلِينَ﴾ فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم وقيل نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام.
الإنعام الثالث : قوله تعالى :﴿وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنا بَأْسِكُم فَهَلْ أَنتُمْ شَـاكِرُونَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اللبوس اللباس، قال ألبس لكل حالة لبوسها.
المسألة الثانية : لتحصنكم قرىء بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها، فالنون لله عز وجل والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع والياء لله تعالى أو لداود أو للبوس.
المسألة الثالثة : قال قتادة : أول من صنع الدرع داود عليه السلام، وإنما كانت صفائح قبله فهو أول من سردها واتخذها حلقاً، ذكر الحسن أن لقمان الحكيم عليه السلام حضره وهو يعمل الدرع، فأراد أن يسأل عما يفعل ثم سكت حتى فرغ منها ولبسها على نفسه، فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله قالوا إن الله تعالى ألان الحديد له يعمل منه بغير نار كأنه طين.
المسألة الرابعة : البأس ههنا الحرب وإن وقع على السوء كله، والمعنى ليمنعكم ويحرسكم من / بأسكم أي من الجرح والقتل والسيف والسهم والرمح.
المسألة الخامسة : فيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود ثم تعلم الناس منه، فتوارث الناس عنه ذلك. فعمت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة فقال :﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَـاكِرُونَ﴾ أي اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة، واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التي خص داود بها ذكر بعده النعم التي خص بها سليمان عليه السلام، وقال قتادة : ورث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده عليه أمرين سخر له الريح والشياطين.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٦٣
الإنعام الأول : قوله تعالى :﴿وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِه ﴾ أي جعلناها طائعة منقادة له بمعنى أنه إن أرادها عاصفة كانت عاصفة وإن أرادها لينة كانت لينة والله تعالى مسخرها في الحالتين، فإن قيل : العاصف الشديدة الهبوب، وقد وصفها الله تعالى بالرخاوة في قوله :﴿رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ فكيف يكون الجمع بينهما. والجواب : من وجهين : الأول : أنها كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال :﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ وكانت جامعة بين الأمرين رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة. الثاني : أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً، لأجل هبوبها على حكم إرادته.
المسألة السادسة : قرىء الريح والرياح بالرفع والنصب فيهما فالرفع على الابتداء والنصب للعطف على الجبال، فإن قيل : قال في دواد :﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ﴾ وقال في حق سليمان :﴿وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ﴾ فذكره في حق داود عليه السلام بكلمة مع وفي حق سليمان عليه السلام باللام وراعى هذا الترتيب أيضاً في قوله :﴿فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه وَالطَّيْرَ ﴾ وقال :﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِه ﴾ فما الفائدة في تخصيص داود عليه السلام بلفظ مع، وسليمان باللام قلنا يحتمل أن الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف، فما أضيف إليه بلام التمليك، أما الريح فلم يصدر عنه إلا ما يجري مجرى الخدمة، فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك، وهذا إقناعي.
أما قوله :﴿إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـالَمِينَ﴾ أي إلى المضي إلى بيت المقدس، قال الكلبي : كانت تسير في اصطخر إلى الشام يركب عليها سليمان وأصحابه.
أما قوله :﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَىْءٍ عَـالِمِينَ﴾ أي لعلمنا بالأشياء صح منا أن ندبر هذا التدبير في رسلنا وفي خلقنا، وأن نفعل هذه المعجزات القاهرة.
الإنعام الثاني : قوله تعالى :﴿وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَه وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَالِكَا وَكُنَّا لَهُمْ حَـافِظِينَ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٦٣


الصفحة التالية
Icon