﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله :﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام ؟
قلنا هذا كقوله :﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا ههنا وثالثها : أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية الأمر الثالث : من الأمور التي يسأل الله الكفار عنها قوله :﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ﴾ (القصص : ٦٥، ٦٦) أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات لأنهم يتساوون جميعاً في عمي الأنباء عليهم والعجز عن الجواب، وقرىء فعميت وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال، ويفوضون الأمر إلى علم الله وذلك قوله تعالى :﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُم قَالُوا لا عِلْمَ لَنَآا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ﴾ (المائدة : ١٠٩) فما ظنك بهؤلاء الضلال، قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان القول بالجبر لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنما أتينا في تكذيب الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك، فكانت حجتهم على الله تعالى طاهرة وكذلك القول فيما تقدم لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك في الغواية، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك / فتكون الحجة لهم في ذلك قوية والعذر ظاهراً والجواب : أن القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والثواب والعقاب إلا ويعيد استدلاله بها، وكما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف فكذا وجه جوابنا حرف واحد وهو أن علم الله تعالى بعدم الإيمان مع وقوع الإيمان متنافيان لذاتيهما فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمر بالجمع بين الضدين، والذي اعتمد القاضي عليه في دفع هذا الحرف في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن بل الواجب السكوت ولو أورد الكافر هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت، فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً فثبت أن الإشكال مشترك والله أعلم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٢
١٣
اعلم أنه تعالى لما بين حال المعذبين من الكفار وما يجري عليهم من التوبيخ أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة وزجراً عن الثبات على الكفر فقال :﴿فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَعَسَى ا أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ وفي عسى وجوه : أحدها : أنه من الكرام تحقيق والله أكرم الأكرمين وثانيها : أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح وثالثها : عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا، واعلم أن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى ويقولون :﴿لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف : ٣١) يعنون الوليد بن المغيرة أو أبا مسعود الثقفي، فأجاب الله تعالى عنه بقوله :﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ﴾ والمراد أنه المالك المطلق وهو منزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء لا اعتراض عليه ألبتة، وعلى طريقة المعتزلة لما ثبت أنه حكيم مطلق علم أنه كل ما فعله كان حكمة وصواباً فليس لأحد أن يعترض عليه وقوله :﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ والخيرة اسم من الاختيار قام مقام المصدر / والخيرة أيضاً اسم للمختار يقال محمد خيرة الله في خلقه إذا عرفت هذا فنقول في الآية وجهان : الأول : وهو الأحسن أن يكون تمام الوقف على قوله :﴿وَيَخْتَارُ ﴾ ويكون ما نفياً، والمعنى :﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ ﴾ ليس لهم الخيرة إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل والثاني : أن يكون ما بمعنى الذي فيكون الوقف عند قوله :﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ ثم يقول :﴿وَيَخْتَارُ ﴾
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٣