المسألة الثانية : ههنا قولان الأول : أنهما كانا ملكين نزلا من السماء وأراد تنبيه داود عليه السلام على قبح العمل الذي أقدم عليه والثاني : أنهما كانا إنسانين دخلا عليه للشر والقتل، فظنا أنهما يجدانه خالياً، فلما رأيا عنده جماعة من الخدم اختلقا ذلك الكذب لدفع الشر، وأما المنكرونت لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما ﴿خَصْمَانِ﴾ فإنه ليس بين الملائكة خصومة، ولكانا كاذبين في قولهما :﴿لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ولكانا كاذبين في قولهما :﴿إِنَّ هَـاذَآ أَخِى لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ فثبت أنهما لو كانا مليكين كاذبين والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى :﴿لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ﴾ (الأنبياء : ٢٧) ولقوله :﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ (النخل : ٥٠) أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب، وأجيب عن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل، أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر ثم وضعا هذا الحديث الباطل، فحينئذٍ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول والله أعلم، وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجا بوجوه الأول : اتفاق أكثر المفسرين عليه والثاني : أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة الثالث : أن قوله تعالى :﴿قَالُوا لا تَخَفْ ﴾ كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته الرابع : أن قولهما :﴿وَلا تُشْطِطْ﴾ كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحداً من رعيته لا يتجاسر أن يقول له تظلم ولا تتجاوز عن الحق، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر، ولا حاجة إلى الجواب، والله أعلم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
المسألة الثالثة :﴿بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ أي تعدى وخرج عن الحد يقال بغى الجرح/ إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية، يوقال بغت المرأة إذا زنت، لأن الزنا كبيرة منكرة، قال تعالى :﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ﴾ (النور : ٣٣) ثم قال :﴿فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ﴾ معنى الحكم إحكام الأمر في آمضاء تكليف الله عليهما في الواقعة، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح، ومنه بناء محكم إذا كان قوياً، وقوله :﴿بِالْحَقِّ﴾ أي بالحكم الحق وهو الذي حكم الله به ﴿وَلا تُشْطِطْ﴾ يقال شط الرجل إذا بعد، ومنه قوله : شطت الدار إذا بعدت، قال تعالى :﴿لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا شَطَطًا﴾ (الكهف : ١٤) أي قولاً بعيداً عن الحق، فقوله :﴿وَلا تُشْطِطْ﴾ أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق، ثم قال :﴿وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ﴾ وسواء الصراط هو وسطه، قال تعالى :﴿فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ﴾ (الصافات : ٥٥) ووسط الشيء أفضله وأعدله، قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة : ١٤٣) وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات أولها : قولهم فاحكم بالحق وثانيها : قولهم :﴿وَلا تُشْطِطْ﴾ وهي نهي عن الباطل وثالثها : قولهم :﴿وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ﴾ يعنى يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق. وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب، واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل، فقال :﴿إِنَّ هَـاذَآ أَخِى لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صحاب "الكشاف" ﴿أَخِى﴾ يدل من هذا أو خبر لقوله :﴿ءَانٍ﴾ والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة، لقوله تعالى :﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ﴾ وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرىء ﴿تِسْعٌ وَتِسْعُونَ﴾ بفتح التاء ونعجة بكسر النون، وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع، ولقوة وهي الأنثى من العقبان.
المسألة الثالثة : قال الليث : النعجة الأنثى من الضأن والبقرة الوحشية والشاة الجبلية، والجمع النعجات، والعرب جرت عادتهم بجعل النعجة والظبية كناية عن المرأة.