ثم قال تعالى :﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ واعلم أن الإنسان خلق مدنياً بالطبع، لأن الإنسان الواحد لا يتنظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة حتى أن هذا يحرث، وذلك يطحن، وذلك يخبز، وذلك ينسج، وهذا يخيط، وبالجملة فيكون كل واحدة منهم مشغولاً بمهم، وينتظم من/ أعمال الجميع مصالح الجميع. فثبت ىن الإنسان مدني بالطبع وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل فثبت أنه لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه والطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك، أما ءذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحق الإلهية انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه. فهذا هو المراد من قولهم :﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق فكن أنت ذلك الحاكم ثم قال :﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه ﴾ الآية، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب العذاب، فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٦
أما المقام الأول : وهو أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله فتقريره أن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، والاستغراق فيها يمنع من الاشتغال بطلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات، لأنهما حالتان متضادتان فبقدر ما يزداد أحدهما ينقص الآخر.
أما المقام الثاني : وهو أن الضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب/ فالأمر فيه ظاهر لأن الإنسان إذا عظم ألفه بهذه الجسمانيات ونسي بالكلية أحواله الروحانيات، فإذا مات فقد فارق المحبوب والمعشوق، ودخل دياراً ليس له بأهل تلك الديار إلف وليس لعيته قوة مطالعة أنوار تلك الديار، فكأنه فارق المحبوب ووصل إلى المكروه، فكان لا محالة في أعظم العناء والبلاء، فثبت أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله. وثبت أن الضلال عن سبيل الله يوجب العذاب، وهذا بيان في غاية الكمال.
ثم قال تعالى :﴿بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ يعني أن السبب الأول لحصول ذلك الضلال هو نسيان يوم الحساب، لأنه لو كان متذكراً ليوم الحساب لما أعرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد، ولما صار مستغرقاً في هذه اللذات الفاسدة.
روي عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز هل سمعت ما بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية ؟
فقال : يا أمير المؤمنين الخلفاء أفضل أم الأنبياء ؟
ثم تلا هذه الآية :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ ثم قال تعالى :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ا فَوَيْلُُ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران : ١٩١) وقوله تعالى :﴿مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ﴾ (الروم : ٨) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأعمال العباد قال لأنها مشتملة على الكفر والفسق وكلها أباطيل. فلما بين تعالى أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً دل هذا على أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد. ومثله قوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ ﴾ (الحجر : ٨٥) وعند المجبرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل، وقد خلق الباطل، ثم أكد تعالى ذلك بأن قال :﴿ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي كل من قال بهذا القول فهو كافر، فهذا تصريح بأن مذهب المجبرة عين الكفر، واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد فقالوا هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقاً لكل ما بين السموات والأرض، وأعمال العباد حاصلة بين السماء والأرض، فوجب أن يكون الله تعالى خالقاً لها.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٦