هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها، فقوله :﴿لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى ﴾ يعني لا يقدر / أحد على معارضته والوجه الثاني : في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر، فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره، وذلك الذي سأله بقوله :﴿مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى ﴾ أي ملكاً لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري الوجه الثالث : في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال القدرة عليها، فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية، حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل الوجه الرابع : من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب، لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة، والنقد يصعب بيعه بالنسيئة، فقال سليمان أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر، حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى الوجه الخامس : أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة، فقال سليمان يا رب العزة أعظني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها، فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها، وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا، ثم قال :﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِه رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ رخاء أي رخوة لينة وهي من الرخاوة والريح إذا كانت لينة لا تزعزع ولا تمتنع عليه كانت طيبة، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في آية أخرى ﴿وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِه ﴾ قلنا الجواب من وجهين الأول : لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصة إلا أنها لما جرت بأمره كانت لذيذة طيبة فكانت رخاء والوجه الثاني : من الجواب أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى ولا منافاة بين الأمرين وقوله تعالى :﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ أي قصد وأراد، وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما، فقال أين تصيبان ؟
فقالا هذا مطلوبنا. وبالجملة فالمقصود أنه تعالى جعل الريح مسخرة له حتى صارت تجري بأمره على وفق إرادته، ثم قال والشياطين كل بناء وغواص، قال صاحب "الكشاف" الشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وآخرين عطف على قوله :﴿كُلَّ بَنَّآءٍ﴾ وهو بدل الكل من الكل كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وقوله :﴿مُقَرَّنِينَ﴾ يقال قرنهم في الحبال والتشديد للكثرة الأغلال واحدها صفد والصفد العطية أيضاً، قال النابغة :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠١
ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد فعلى هذا الصفد القيد لكل من شددته شداً وثيقاً فقد صفدته/ وكل من أعطيته عطاء جزيلاً فقد أضفدته، وههنا بحث، وهو أن هذه الآيات دالة على أن الشياطين لها قوة عظيمة، وبسبب تلك القوة قدرو على بناء الأبنية القوية التي لا يقدر عليها البشر، وقدروا / على الغوص في البحار، واحتاج سليمان عليه السلام إلى قيدهم، ولقائل أن يقول إن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة، فإن كان الأول وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة، إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم، فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها، وذلك دخول في السفسطة، وإن كان الثاني وهو أن أجسادهم ليست كثيفة، بل لطيفة رقيقة، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة، وأيضاً لزم أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزق بسبب الرياح القوية وأن يموتوا في الحال، وذلك يمنع من وصفهم ببناء الأبنية القوية، وأيضاً الجن والشياطين إن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة، فلم لا يقتلون العلماء والزهاد في زماننا ؟
ولم لا يخربون ديار الناس ؟
مع أن المسلمين مبالغون في إظهار لعنهم وعداوتهم. وحيث لم يحس شيء من ذلك، علمنا أن القول بإثبات الجن والشياطين ضعيف.
واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسامهم كثيفة مع أنا لا نراها، وأيضاً لا يبعد أن يقال أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون، ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق والتمزق. وأما الجبائي فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان، ثم إنه لما توفي سليمان عليه السلام، أمات الله أولئك الجن والشياطين، وخلق نوعاً آخر من الجن والشياطين تكون أجسامهم في غاية الرقة، ولا يكون لهم شيء من القوة، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس.