﴿إِذْ﴾ ظرف والعامل فيه ما في قوله تعالى :﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وفيه إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى، وذلك لأن الملك إذا أقام كتاباً على أمر اتكل عليهم، فإن كان له غفلة عنه فيكون في ذلك الوقت يتكل عليهم، وإذا كان عند إقامة الكتاب لا يبعد عن ذلك الأمر ولا يغفل عنه فهو عند عدم ذلك أقرب إليه وأشد إقبالاً عليه، فنقول : الله في وقت أخذ الملكين منه فعله وقوله أقرب إليه من عرقه المخالط له، فعندما يخفى عليهما شيء يكون حفظنا بحاله أكمل وأتم، ويحتمل أن يقال التلقي من الاستقبال يقال فلان يتلقى الركب وعلى هذا الوجه فيكون معناه وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والحبور إلى يوم النشور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم الحشر من القبور، فقال تعالى وقت تلقيهما وسؤالهما إنه من أي القبيلين يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال، يعني الملكان ينزلان وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله يسألانهما من أي القيلين كان، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور، ويرجع إلى الملك الآخر مسروراً حيث لم يكن مسروراً ممن يأخذها هو، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزوناً حيث لم يكن ممن يأخذها هو، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى :﴿سَآاـاِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ (ق : ٢١) فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى أخذ روحه من ملك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة. وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم، وقول القائل جلست عن يمين فلان فيه إنباء عن تنح ما عنه احتراماً له واجتناباً منه، وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال :﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق : ١٦) المخالط لأجزائه المداخل في أعضائه والملك متنح عنه فيكون علناً به أكمل من علم الكاتب لكن من أجلس عنده أحداً ليكتب أفعاله وأقواله ويكون الكاتب ناهضاً خبيراً والملك الذي أجلس الرقيب يكون جباراً عظيماً فنفسه أقرب إليه من الكاتب بكثير، والقعيد هو الجليس كما أن قعد بمعنى جلس.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
أي شدته التي تذهب العقول وتذهل الفطن، وقوله ﴿بِالْحَقِّ ﴾ يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون المراد منه الموت فإنه حق، كأن شدة الموت تحضر الموت والباء حينئذ للتعدية، يقال جاء فلان بكذا أي أحضره، وثانيهما : أن يكون المراد من الحق ما أتى به من الدين لأنه حق وهو يظهر عند شدة الموت وما من أحد إلا وهو في تلك الحالة يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلا ممن سبق منه ذلك وآمن بالغيب، ومعنى المجيء به هو أنه يظهره، كما يقال الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم أي أظهره، ولما كانت شدة الموت مظهرة له قيل فيه جاء به، والباء حينئذ يحتمل أن يكون المراد منها ملبسة يقال جئتك بأمل فسيح وقلب خاشع، وقوله ﴿ذَالِكَ﴾ يحتمل أن يكون إشارة إلى الموت ويحتمل أن يكون إشارة إلى الحق، وحاد عن الطريق أي مال عنه، والخطاب قيل مع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو منكر، وقيل مع الكافرين وهو أقرب، والأقوى أن يقال هو خطاب عام مع السامع كأنه يقول ﴿ذَالِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ أيها السامع.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
عطف على قوله ﴿وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ (ق : ١٩) والمراد منه إما النفخة الأولى فيكون بياناً لما يكون عند مجيء سكرة الموت أو النفخة الثانية وهو أظهر لأن قوله تعالى :﴿ذَالِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ بالنفخة الثانية أليق ويكون قوله ﴿وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ إشارة إلى الإماتة، وقوله ﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ﴾ إشارة إلى الإعادة والإحياء، وقوله تعالى :﴿ذَالِكَ﴾ ذكر الزمخشري أنه إشارة إلى المصدر الذي من قوله ﴿وَنُفِخَ﴾ أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد وهو ضعيف لأن يوم لو كان منصوباً لكان ما ذكرنا ظاهراً وأما رفع يوم فيفيد أن ذلك نفس اليوم، والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان فالأولى أن يقال ذلك إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله ﴿وَنُفِخَ﴾ لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه تعالى قال ذلك الزمان يوم الوعيد، والوعيد هو الذي أوعد به من الحشر والإيتاء والمجازاة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩
قد بينا من قبل أن السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنه إلى مقعده والشهيد هو الكاتب، والسائق لازم للبر والفاجر أما البر فيساق /إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار، وقال تعالى :﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (الزمر : ٧١) ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ (الزمر : ٧٣).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١١٩